في رد فعل على محاولة تسميم العميل الروسي المزدوج سيرغي سكريبال وابنته في مدينة ساليزبري البريطانية، لجأت لندن وحكومات أكثر من 20 دولة غربية حليفة في أوروبا وأمريكا وأستراليا إلى طرد أكثر من 150 دبلوماسياً روسياً، وإغلاق قنصليات ومراكز إعلامية تابعة لموسكو. كما صدر بيان مشترك عن رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، جاء فيه أن استخدام غاز أعصاب «نوفيشوك» في اعتداء ساليسبري هو أول هجمة من نوعها بعد الحرب العالمية الثانية، وتشكل انتهاكاً واضحاً لميثاق الأسلحة الكيميائية وخرقاً للقانون الدولي. وكما كان متوقعاً، نفت موسكو أي مسؤولية عن الواقعة، ولكنها ردت بالمثل وطردت أعداداً مماثلة من الدبلوماسيين الغربيين، وأغلقت قنصليات، وتنذر باتخاذ المزيد من الإجراءات.
أجواء تعيد إلى الذاكرة مناوشات الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، والحالات السابقة لطرد الدبلوماسيين وتبادل الجواسيس، وتثبت بالتالي أن الوئام المعلن بين القوى العظمى وتوافقها على السلام والأمن العالميين ليس سوى واجهة كاذبة تخفي صراعاً محتدماً قوامه التجسس والرصد وجمع المعلومات، وبالتالي توسيع مناطق النفوذ وميادين الهيمنة. وما دام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد جاء إلى الكرملين من قلب المؤسسة الاستخباراتية التي كانت تدير حروب التجسس مع الغرب، فكيف يُستغرب منه أن يأمر بالثأر من جاسوس خان تلك المؤسسة وأفشى أسرارها؟ ثم هل هذه هي حادثة تصفية الجواسيس الأولى بين موسكو ولندن، أم انها تتمة طبيعية لتسميم الجاسوس الروسي ليتفينينكو في العاصمة البريطانية، سنة 2006؟
ولكن أجواء استئناف الحرب الباردة على صعيد طرد الجواسيس تلفت الانتباه إلى مفارقة أولى هي أن حكومة ماي، التي تبنت الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، تعود لاهثة إلى حضن القارة العجوز ذاتها بحثاً عن التضامن السياسي والدبلوماسي. وإذْ تجده بالفعل في مسارعة الحكومات الأوروبية إلى طرد عشرات الدبلوماسيين الروس من باب الاستجابة للطلب البريطاني، فإن التضامن الآخر الذي جاء من خارج الاتحاد الأوروبي، من ألبانيا وملدوفيا وأوكرانيا فضلاً عن الولايات المتحدة، يثبت أن المملكة المتحدة لا تستطيع التفكير بعقلية الجزيرة المنفصلة المنعزلة فقط.
المفارقة الثانية هي أن طرد الدبلوماسيين، حتى إذا تكفل بإضعاف النشاط الجاسوسي لبلد مثل روسيا، فإنه لا يمس عمق الشبكة الحقيقية الخفية للتجسس والجواسيس. فهؤلاء لا يعملون بجوازات سفر دبلوماسية كما برهنت وقائع تواريخ الاستخبارات، بل تتخذ أشباحهم صفات السمكري أو الخياط أو الجندي مثلاً، كما في رواية جون لوكاريه الشهيرة عن اختراق السوفييت للهرم الأعلى في الاستخبارات البريطانية. وهذا يعني أن عمليات الطرد والرد على الطرد لن توقف في قليل أو كثير تلك الحروب الطاحنة التي تواصل الأجهزة خوضها على أصعدة سياسية واقتصادية وتكنولوجية، وربما على نحو أكثر شراسة من حروب المعلومات الأمنية والعسكرية.
وبذلك فإن من تحصيل الحاصل بقاء سمكري بريطاني هنا، أو خياط روسي هناك.
صحيفة القدس العربي