أعلنت بعض الدول عن رغبتها في بناء شبكة إنترنت واتصالات وطنية، وذلك منذ عمليات التجسس واسعة النطاق التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية، سواء ضد الخصوم أو الحلفاء، فضلاً عن تصاعد الهجمات الإلكترونية ضد شبكات المرافق الحيوية، والتخوف من اختراق الشبكات العسكرية وسرقة المعلومات الاستراتيجية أو التحكم في الأنظمة العسكرية الإلكترونية.
لقد شكلت هذه العوامل قوة دافعة للعديد من دول العالم، شملت دول الاتحاد الأوروبي، ودول مجموعة البريكس، للتوجه نحو بناء شبكة داخلية سواء للإنترنت أو الاتصالات. وقد سبق ذلك قيام الصين بإنشاء الجدار الناري العظيم للعمل على الحماية من التهديدات الإلكترونية بأنواعها المختلفة، وهو ما يلقى الضوء على بعض التجارب الدولية، سواء المزمع تنفيذها أو التي تم تنفيذها بالفعل، فيما يتعلق بالحافظ على أمن الإنترنت الوطني.
الحد من الاعتماد على الخوادم الأمريكية
أضحى الحفاظ على أمن شبكة الإنترنت والاتصالات جزءاً محورياً من استراتيجيات الدولة الوطنية، حيث بدأت تبذل بعض الجهود الفردية والمشتركة للحد من الاعتماد على السيطرة الأمريكية على شبكة الإنترنت، ومن ذلك ما يلي:
1 ـ الاتحاد الأوروبي:
في محادثات مشتركة بينهما طالبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ببناء شبكة اتصالات أوروبية لنقل البيانات والمعلومات والاتصالات حتى لا يتم استخدام الشبكات والخوادم الأمريكية، ومن ثم إمكانية أن تقع في أيدي جهات تقوم بعلميات تجسس واختراق للبيانات مثل وكالة الأمن القومي الأمريكي، وهو الاقتراح الذي لاقى قبولاً واسعاً من دول الاتحاد الأوروبي، وربما قد تبدأ بعض الخطوات العملية لتنفيذه في المستقبل القريب.
2 ـ مجموعة “البريكس”:
تعتزم دول منظمة البريكس (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا) تأسيس فضاء إلكتروني خاص بها مستقل عن شبكة الإنترنت الحالية، بهدف التخلص من الهيمنة وعمليات التجسس الإلكتروني الأمريكية.
وقد اتخذت خطوات فعلية في هذا الإطار، حيث تقوم البرازيل ببناء منظومة الكابلات التي يمكن أن تربطها بروسيا والصين وجنوب أفريقيا، بكابل يبلغ طوله ۳٤ ألف كيلومتر، يربط بين مدينة فلاديفوستوك في شرق روسيا وفورتاليزا في البرازيل، مروراً بشانتو الصينية وتشيناي الهندية وكيب تاون في جنوب أفريقيا.
ومن المتوقع أن يوفر المشروع خدمات الانترنت في ۲۱ دولة أفريقية، وبذلك سوف تنشأ شبكة إنترنت جديدة موازية لشبكة الإنترنت الحالية، وسوف تكون منافساً قوياً للولايات المتحدة، بل وتعتزم دول البريكس أيضاً إصدار تشريعات تجبر القوى الرئيسية في الإنترنت مثل “جوجل” و”فيسبوك” و”ياهو” على تخزين كافة المعلومات التي يتم جمعها داخل دول المجموعة محلياً، كي لا تتمكن وكالة الأمن القومي الأمريكية من الوصول اليها.
3 ـ روسيا:
في أعقاب الخلاف الروسي ـ الأوروبي بسبب ضم روسيا لشبه جزيرة “القرم”، أعلن المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بسكوف، أن السلطات تعتزم اتخاذ إجراءات لتوفير أمن شبكة الإنترنت الروسية، في مواجهة عقوبات غربية محتملة، لكنه نفى أية نية لدى روسيا في الانفصال عن شبكة الإنترنت العالمية، مضيفاً أن “هوية المزود الرئيسي للإنترنت في العالم معروفة، وبالنظر الى تصرفاته الارتجالية، ينبغي أن نفكر بطريقة نضمن بها أمننا”، في إشارة واضحة الى الولايات المتحدة.
التوجه نحو إنشاء شبكات وطنية
وفقاً لما سبق، فقد اتخذت عدد من الدول خطوات سابقة نحو إنشاء شبكة اتصالات وإنترنت وطنية، ودول بالغت في إجراءات الحماية لشبكاتها الوطنية، مثل الصين وإيران، ويتضح ذلك في التالي:
1 ـ أصبحت شبكة الإنترنت في الصين أشبه بكونها شبكة داخلية، فرغم اتصالها بشبكة الإنترنت العادية، إلا أنه يسهل فصلها عن الإنترنت حال تعرض الصين لهجمات إلكترونية، وتحويلها إلى شبكة إنترنت داخلية، حيث تقوم الحكومة الصينية بدور مقدم الخدمة، ومن ثم فهي المسؤولة عن الدفاع عن الشبكة، وتقوم بهذا الدور بالفعل.
وقد قامت الصين ببناء ما يعرف بسام الجدار الناري الصيني العظيمThe Great Firewall of china أو ما يعرف رسمياً باسم مشروع الغطاء الذهبيGolden Shield ، والذي يعد أحد أكثر المشاريع التقنية الأكثر تقدماً لمراقبة الإنترنت وحجب المواقع الغير مرغوب بها، وهو عبارة عن برنامج للمراقبة والاستطلاع، قامت بتنفيذه وزارة الأمن العام Ministry of Public Security، وبدأ المشروع في عام 1998 ودخل الخدمة في عام 2003.
ولذلك كانت الصين من أوائل الدول التي أدركت خطورة الإنترنت كمصدر من مصادر التهديد، ومن ثم كانت هندسة الإنترنت فيها تقوم على احتمالية استخدامها كسلاح موجه ضدها، كما أن سياسة الصين في هذا المجال تأتي انعكاساً لمقولة الرئيس الصيني Deng Xiaoping (1978 – 1992) “إذا فتحت النافذة للهواء الطلق، فعليك توقع بعض الحشرات التي تدخل منه”.
2 ـ بدأت إيران في عام 2011 إنشاء شبكة إنترنت وطنية منفصلة عن شبكة الإنترنت العادية، حيث أعلن وزير اقتصادها، علي آغا محمدي، أنها ستكون شبكة “حلال” بحق، وستهدف إلى خدمة المسلمين على المستويين الأخلاقي والمعنوي. ولعل الهدف الرئيسي من إنشاء هذه الشبكة هو حماية المنشآت النووية والبنية التحتية الحرجة الإيرانية بعد تعرضها لهجمات فيروس ستاكس نت، فمن خلال هذه الشبكة قد تستطيع إيران عزل شبكتها الداخلية عن شبكة الإنترنت العالمية في وقت قصير حال تعرضها لهجمات إليكترونية، وتتميز بإمكانيات تجعلها تعمل بصورة أسرع من الشبكة العادية.
وقد حصلت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية على مسودة تقرير صادر عن مركز الأبحاث التكنولوجية والاتصالات العالمية التابع لجامعة بسنيلفانيا يفيد بأنّ “الأبحاث التي أُجريت بيّنت وجود نسخ لمواقع إلكترونية تابعة للوزارات الإيرانية والجامعات وشركات الأعمال تعمل بشكلٍ طبيعي على شبكة إيران الوطنية”. كما تم العثور على برامج فلترة ذات تقنية عالية، وتعني الفلترة هنا قدرة النظام الإيراني على فصل ما لا يريده من شبكة الإنترنت العالمية بشكل كامل عن شبكته المحلية. وترتكز الشبكة الإيرانية بحسب التقرير الأمريكي على “معدّات تكنولوجية عالية المستوى مصنّعة من قبل شركة هواوي الصينية التي تؤمّن للشبكة الإيرانية قدرة عالية على فلترة الشبكة العالمية ومراقبة تحركات الإيرانيين على الشبكتين بشكلٍ دقيق.
هل يمكن التخلي عن الدور الأمريكي حالياً؟
تهيمن معظم الشركات الأمريكية على صناعة الإنترنت في العالم، سواء كانت مكونات مادية Hardware أو برمجية، فنجد أن شركات جوجل تستحوذ على سوق محركات البحث، أما مايكروسوفت وأبل فتحتكران قطاع أنظمة التشغيل Operating Systems، وتحتكر شركات جوجل وأبل ومايكروسوفت أنظمة تشغيل الهواتف الذكية.
وحتى عندما يتعلق الأمر بقطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية القوية تقليدياً، فنجد أن شركة AT&T تحتل المرتبة الثانية عالمياً بعد شركة NTT اليابانية، وتعتبر شركة سيسكو سيستمز، الأولى عالمياً في مجال المعدات الشبكية، وتسيطر الشركات الأمريكية مثل فيسبوك وتويتر وجوجل على سوق شبكات التواصل الاجتماعي في العالم.
وعلاوة على ذلك يتم التحكم بنظام أسماء النطاقات عن طريق منظمة ICANN التابعة بشكل غير مباشر لوزارة التجارة الأمريكية، كما أن معظم الشركات التي تعمل في الإنترنت مسجلة في الولايات المتحدة؛ ومن ثم يمكن القول إنه يصعب في الوقت الحالي التخلي عن الدور الأمريكي بصورة كاملة في إدارة أصول الانترنت، نظراً لعدم وجود بديل جاهز، وضعف المنافسة بين كبرى الشركات الأمريكية وغيرها من الشركات في أوروبا وآسيا.
إيهاب خليفة
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة