انتقد المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي “إف.بي.آي” جيمس كومي، بشدة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مقابلة مع شبكة “إيه.بي.سي” الأحد الماضي، معتبرا أنه “غير مؤهل أخلاقيا” للرئاسة، إذ أنه يكذب باستمرار و“سيلوث كل من حوله”.
لا يمكن اعتبار هذا الانتقاد الحاد لشخص الرئيس “لهجة غير مسبوقة” في أعراف الديمقراطيات الغربية، لكن صراحته ووضوحه يعيدان إلى الأذهان سؤالا قديما ويتجدد باستمرار، وهو: ما مدى تقبل المجتمعات لحاكم يوصف بأنه غير مؤهل أخلاقيا، وذلك ليس فقط من طرف خصومه السياسيين بل من شخصيات عملت معه وتعرفه عن قرب، زد على ذلك أن المشككين في أخلاق الرئيس هم من الأمنيين ورجال الصف الأول القريبين من المراكز الحساسة في الدولة؟
كيف يؤتمن حاكم على مصالح أمة بأكملها وهو مطعون في سلوكه وأخلاقياته من طرف مقربين منه؟
وإذا فرضنا جدلا بأن مصالح شخصية ومآرب خاصة تحرّك هذه الانتقادات الحادة وتصل إلى حد التجني وافتعال الأكاذيب، فإن هذا الأمر يطرح بالمقابل القضية نفسها: هل وصل السياسيون والأمنيون إلى هذا الدرك الأسفل من النميمة وإطلاق الشائعات المسفة؟
ولأن الولايات المتحدة، يمكن أن تكون نموذجا عالميا لهذا الجدل الأخلاقي والسياسي، ومنطلقا له، فبالعودة إلى هذا التراشق الحاد بين رئيس أكبر دولة في العالم وبين مدير الأمن السابق، ندرك أن هذه الفضيحة تطرح أبعادا مضاعفة، ذلك أنها تثار في بلد ما انفك يقدم نفسه كأمة تحكمها منظومة أخلاقية وتشريعات متطورة تقف وراء تفوقها الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي.
ماذا يمكن أن تتركه تصريحات كومي الأخيرة في إطار هذا السجال بينه وبين ترامب في نفوس الأميركيين المعروفين بأنهم مجتمع محافظ يعير للقيم الإنسانية اهتماما بالغا؟
كيف للمواطن الأميركي البسيط أن يتعاطى أخلاقيا مع هذه الرجة حين يرى رئيس الولايات المتحدة يصب جام غضبه على مدير “إف.بي.آي” السابق واصفا إياه بـ“كتلة قذارة” وداعيا إلى سجنه. وقد جاء ذلك قبيل نشر مذكرات كومي التي حملت عنوان “ولاء أكبر: الحقيقة والأكاذيب والزعامة”، التي فصل فيها علاقته بالرئيس الجمهوري.
وقال عن الرئيس في مقابلة تلفزيونية بعد إقالته في مايو من العام الماضي “أعتقد أنه غير مؤهل من الناحية الأخلاقية ليكون رئيسا”.
كيف يمكن لبلد تتشدد قوانينه مع قضايا التحرش التي قد تصل عقوبتها إلى سنوات طويلة، أن يتقبّل ما أشار إليه المدعي الفيدرالي في حديثه عن الأسلوب الذي “يتحدث ويتعامل به ترامب مع النساء وكأنهن قطع لحم فيما يكذب مرارا بشأن أمور كبيرة وصغيرة ويصرّ على أن الشعب الأميركي يصدقه؟”.
هل يصدقه الشعب الأميركي فعلا أم أنه يتعامل بدوره مع رئيسه بنوع من التواطؤ أو عدم المبالاة وكأن الأخلاق آخر ما يفكر فيه المرء بعد مصالحه أم أنه يحكم على الرئيس وخصمه وفق المثل القائل “عاهرة وتحاضر في الشرف؟”.
القضية الأكثر تعقيدا في الربط بين السياسي والأخلاقي هو أن “الأخلاق” تمثل حالة مطاطة ومفهوما هلاميا يصل حد التضليل، ويمكن استخدامه في كل الاتجاهات مثل قول كومي “إن القيم ضرورية، وهذا الرئيس لا يمثل قيم هذا البلد”. وأشار كذلك إلى أن العمل ضمن إدارة ترامب يشكل معضلة أخلاقية حقيقية قائلا “التحدي الذي يشكله هذا الرئيس هو أنه سيلوث كل من حوله”. وقال لشبكة “إيه.بي.سي” التي نشرت النص الكامل للمقابلة “السؤال هو (..) كم من التلوث سيجعلك في النهاية غير قادر على تحقيق هدفك في حماية البلاد وخدمتها؟”. ما مدى مسؤولية مجتمع محافظ أمام حاكم مطعون في أخلاقه، هذا السؤال طرحه استدراك كومي رغم انتقاداته اللاذعة لترامب، إذ أعرب عن أمله بأن لا يتم عزل الرئيس قائلا “آمل بألا يحدث ذلك لأنني أعتقد أن عزل وإبعاد دونالد ترامب، من السلطة سيزيلان المسؤولية عن كاهل الشعب الأميركي”.
وسائل التواصل الاجتماعي تزيد من وطيس مثل هذه المعارك، ويصبح التفاعل معها على سبيل الفرجة والفضول أكثر منه مسؤولية وتشبثا بالمعايير الأخلاقية، ذلك أن ترامب قال في واحدة من سلسلة تغريدات نشرها “لم أطلب يوما الولاء الشخصي من كومي.. بالكاد أعرفه.. هذه أيضا إحدى أكاذيبه الكثيرة.. مذكراته تخدم مصلحته الشخصية وهي زائفة”.
الأولوية للأولويات الاجتماعية
لماذا هذا الشغف الذي يصل إلى درجة الهوس لدى الرئيس الأميركي الحالي بالتغريدات المستفزة على موقع تويتر؟ ألا تكفيه القنوات والطرق الرسمية المعتادة في الرد على خصومه ومنتقديه؟
إلى أي مدى يمكن اعتبار هذه الحالة التي يتفرّد بها دونالد ترامب، مزاجا شخصيا وأسلوبا سريعا ومختصرا تمليه طبيعة العصر؟ وهل تعد هذه الطريقة نوعا من الشفافية والمصارحة أم شكلا من أشكال الشعبوية التي ينبغي أن تدينه أخلاقيا في الأسلوب قبل البحث في المحتوى والمضمون؟
قال أحد المعلقين على موضوع تنامي الفضائح الأخلاقية في أوساط الزعماء والسياسيين أكثر من أي وقت مضى “لو كان أباطرة الحضارات القديمة يتسلون بتغريدات تويتر وغيرها من تقنيات التواصل على المواقع الإلكترونية كما يفعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب وخصومه اليوم، لما وجدت تلك الإنجازات والآثار التي نستمتع بمشاهدتها في متاحف العالم” ثم أردف قائلا بجدية “إن الأمر يتعلق أيضا بمنسوب الحريات وضرورة دفع الضريبة المتعلقة بالثورات الرقمية التي غيّرت العالم”.
هذا الأمر ليس تبرئة من جرائم أخلاقية ارتكبت في التاريخ القديم ومازالت تستمر في عصرنا، ولكن ليس بدبلوماسية التغريدات تعالج الأمور وتحاكم السياسات بل إن هذه المماحكات والمشاحنات من شأنها أن تعقّد الأمور وتميّعها فينصّب كل فرد نفسه محققا وواعظا ومحاكما ومدعيا أيضا.. طالما أن الأمور صارت سهلة، مجانية ومسلية أيضا.
المحاكمات الأخلاقية سوق تتسع لمئات الدكاكين والباعة والسماسرة، إذ لا يمكن حصر هذه الادعاءات التي تقام كل يوم باسم الأخلاق، خصوصا ضد زعماء ومشاهير، وهو أمر يتطلب الوقوف عنده: لماذا لا يتّهم في أخلاقهم عادة إلا المشاهير؟ الجواب قد يبدو بسيطا ومفاده أن طبيعة أدوارهم ومسؤولياتهم تجعل الأنظار مسلّطة عليهم.
الحقيقة أن مثل هذا الجواب غير كاف وغير مقنع بما فيه الكفاية، ومرد ذلك يتعلق بأسباب أخرى أهمها حالات التظلّم والتهافت والابتزاز وطلب الشهرة، وهي أمور لم تعد خافية على أحد.
واهم من يعتقد أن استبعاد الأخلاق هو من صلب العمل السياسي، لكن الأمر يرتبط بمعايير وأولويات يصعب ضبطها بسهولة، ذلك أن قيادة الدول والمجتمعات لا تحتاج إلى كهنة بقدر ما تحتاج إلى توفيقيين من نوع خاص، فالإيطالي مكيافيلي، صاحب كتاب “الأمير” (1469-21 يونيو 1527)، شدّد على أن الدولة القوية تقوم على وازعٍ أخلاقي، وإن استخدم الحاكم الوسائل المنافية للأخلاق للوصول إلى أهدافه، حيث أكد مكيافيلي أن ولاء المواطن مُرتبط بمقدار خدمته للمجتمع.
ليس دفاعا عن المتورطين في قضايا أخلاقية من السياسيين بل على العكس، فمن الواجب إدانة هؤلاء جنائيا ونعتهم بالحمقى والمثيرين للاشمئزاز بحكم كونهم عبيدا للمصالح الشخصية والنزعات الأنانية، لكن هدف السياسة هو المحافظة على قوة الدولة والعمل على توسيع نفوذها، وهذا لا يتم بوجود وازع ديني أو أخلاقي، ولهذا فقد أعجب الناس عبر التاريخ بالحكام الذين توسّع سلطانهم غير آبهين بأي رادعٍ كان، ومن ثم قال الحقوقي الفرنسي موريس دوفيرجيه، عندما قارن بين أرسطو ومكيافيلي “لقد أوجد أرسطو الركن الأول في علم السياسة وهو اعتماد منهج الاستقراء والملاحظة، وأوجد ميكيافيلي الركن الثاني، وهو المنهج الموضوعي المجرد من الاهتمامات الأخلاقية”.
جمهور مواقع التواصل الاجتماعي يشترك في النفخ في كير الإشاعات وتبادل الاتهامات، وهو ليس بمنأى عن هذا السلوك الذي قد يجانب الأخلاق ويبتعد عن قيم احترام خصوصيات الآخر وعدم الحكم على الأشياء قبل التبصّر وانتظار رأي القانون.
وفيما يخص سلوك ترامب الذي لم يعهده الجمهور الأميركي، ورأى فيه الكثير نوعا من الرعونة والاستهتار بالقيم البشرية، يتذكر له متابعوه مواقف تبدو صادمة لخصومه ومنتقديه بل ويرى فيها كثيرون نوعا من الوضوح والصراحة والوفاء للقيم التي تربى عليها المجتمع الأميركي. فمنذ فترة، أدان الرئيس الأميركي جريمة قتل مواطنين أميركيين كانا يحاولان الدفاع عن امرأة مسلمة تعرضت لإهانات عنصرية على متن قطار بمدينة بورتلاند في ولاية أوريغون. وكتب ترامب تغريدة تقول “الاعتداءات العنيفة التي وقعت في بورتلاند غير مقبولة، فالضحيتان وقفا في وجه الكراهية والتعصّب”.
القول باستحالة اللقاء بين السياسة والأخلاق، مسألة فيها الكثير من التجني بل إن العائد إلى مفهوم هذه الثنائية من وجهة نظر فلسفية، يدرك أن السياسة من أنبل الأفعال الإنسانية، ذلك أنها تتعلق بمسؤولية الفرد تجاه المجموعة، فهي من أنقى السلوكيات الأخلاقية من حيث إعادة ترتيب الأنفع ثم الأقل نفعا.
السياسة أخلاق أو لا تكون
منذ قرابة العام، كتب كريس سيليزا، محرر الشؤون السياسية في السي.أن.أن الأميركية، “عندما ظهر مقطع فيديو يظهر فيه صوت دونالد ترامب وهو يتحدث عن كيفية استغلاله لثروته وسلطته للاعتداء جنسيا على النساء ومعاملتهن بشكل مهين، ثم فاز هذا الرجل بالانتخابات الرئاسية على الرغم من هذه الفضيحة، عرفنا أن هذا الأمر ستكون له تبعات سياسية وثقافية خطيرة على الولايات المتحدة”.
وما ورد في حديث الصحافي الأميركي، يرثي القيم الأخلاقية بل يكاد ينعى حضورها في المجتمع الذي طالما تباهى بتمسكه بجملة من القيم حوكم أو أقصي بموجبها رؤساء من قبله مثل بيل كلينتون أثناء تورطه في الفضيحة الجنسية مع مونيكا لوينسكي،التي كانت متدربة في البيت الأبيض، وتعمده الكذب على الرأي العام الأميركي كما لا ننسى إحدى سقطات جورج بوش الابن، الذي أصر على أن العراق كان يمتلك أسلحة دمار شامل، وأوهم الأميركيين بأن ذلك يمثل خطرا وشيكا على أمنهم، وذلـك مـن أجل الـذهاب إلى الحرب.
ويمكن اعتبار ريتشارد نيكسون، الأكثر نزولا إلى الحضيض من الناحية الأخلاقية، حيث أنه استغل منصب الرئاسة من أجل تحقيق أغراض سياسية وأهداف شخصية كثيرة، لكن لا يمكن أن ينكر العالم أن جل الرؤساء الذين حكموا البيت الأبيض كانوا يتحلون بالأخلاق.
ويتفق مراقبون على أن ترامب، على ما يبدو، يمثل نموذجا أكثر سوءا حتى من نيكسون الذي تجاهل البعد الأخلاقي لمنصب الرئاسة في الولايات المتحدة.
ويتفق مراقبون على أن أسوأ مظاهر التدهور الأخلاقي في العمل السياسي هو استثمار الأخلاق ومحاولة إبرازها في المواقف الإيجابيـة، والنـأي بالنفـس عـن اللوم، والتهرب من المسؤولية عندما يكون الحدث سلبيا، وهو ما نجده في سياسة ترامب.
سؤال آخر في غاية الدقة والأهمية، يقفز إلى الأذهان عند الاستماع إلى من يبرر أفعاله المشينة من السياسيين، مدّعيا أن الحملة المنظمة ضده غايتها اعتبارات سياسية تنافسية ونزعات فردية وشخصية، وهو: هل أمست الأخلاق غاية ووسيلة لتبرير غياب الأخلاق؟
كتاب ومحللون يرون أن بلدانا غربية كثيرة جعلت القضية الأخلاقية في السنوات الماضية، وأكثر من أي وقت مضى، قضية منافع متعددة الأوجه والاحتمالات، ووقع إخراج مفهوم الوحدة البشرية من دائرة الاهتمام، وأصبح من الطبيعي لدى من يدعي حقوق الإنسان اليوم أن يتفاخر بما سرقه أجداده من الشعوب الفقيرة والمغلوبة بالأمس.
ثمة طريقة أخرى أكثر مكرا ولؤما في السكوت عن الانحطاط الأخلاقي في العمل السياسي، وهي التغطية والتضليل على الاتهامات بردود فعل توحي بالمظلومية والوقوع ضحية للمؤامرات، فينساق الجمهور العريض نحو نوع من التحقيق البوليسي، وذلك من خلال متابعة التراشق في شبكات التواصل الاجتماعي، فتفرغ بذلك القضية من مضمونها الصرف، وتتحول قضية غياب الأخلاق إلى اتهام كل خصم خصمه بـ”غياب الأخلاق”.
ولعل خير دليل على هذا الأسلوب البوليسي والتشويقي التضليلي ما ورد في خصومة الرجلين الأميركيين، إذ شبه المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي، الرئيس الأميركي بزعيم عصابة مراوغ.
وقال إنه طالب بولاء مدير “إف.بي.آي” السابق شخصيا في شهادة أثارت غضب ترامب في وقت يزداد حجم الضغوط القانونية على جبهات أخرى.
ويستمر تراشق الاتهامات في ما يشبه الخناقات في الأحياء الشعبية، إذ يقول الرئيس الأميركي إن كومي تعاطى بغباء مع التحقيق المرتبط بمنافسة ترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2016 مع هيلاري كلينتون بشأن كيفية استخدامها مشغّلا خاصا لبريدها الإلكتروني عندما كانت وزيرة للخارجية.
وأشار ترامب، إلى وجود أسئلة “كبيرة” تستدعي الإجابة في ما يتعلق بمذكرات كومي “كيف نشر معلومات سرّية، لماذا كذب على الكونغرس، لماذا رفضت اللجنة الوطنية الديمقراطية تزويد مكتب التحقيقات الفيدرالي بخادم إنترنت؟”.
وفي المقابل -ورغم كل شيء- فإن الجانب الأخلاقي بدا حاضرا وبقوة في قول المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي إنه غير متأكد مما إذا كانت لدى الروس ملفات خطيرة يمكن استخدامها لابتزاز ترامب، وقال “أعتقد أن ذلك ممكن.. لا أعرف.. هذه كلمات لم أفكر يوما بأن أتفوّه بها عن رئيس الولايات المتحدة، لكن ذلك وارد”.
حكيم مرزوقي
صحيفة العرب اللندنية