أحدثت ثورات الربيع العربي تمزّقاتٍ واضحةً في بنية الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة في المنطقة، ونجحت في إزاحة أربعة من أعتى الأنظمة الاستبدادية، وتبشر الدلائل بمزيد من الانهيارات، وقد اهتزت عروش وسلطات روّجت إلى أبديتها، حتى بات مجرّد تخيل إزاحتها ضربا من المستحيل، غير أن الانزياحات التي أصابت هذا الربيع، ونتائجها الكارثية على الدول التي حدثت فيها حركات شعبية، جعلت منه مصدر خوف وقلق لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية، حتى إن بعض تلك الدول أضحت مضربا للمثل في التخريب والموت والدمار، فكثيرا ما نسمع خطابات لسياسيين عرب تسأل: هل تريدون لبلدنا أن يصبح مثل سورية؟.. وبات هذا التساؤل اتهاما، بل وتهديدا يُشهره محللون وسياسيون في وجوه شعوبهم عند أدنى شعور بالتحرّك الشعبي أو التمرّد، وباتت سورية الكرباج الذي يتم تهديد الشعوب به، وكأن الثورة السورية أصبحت حكايةً شعبيةً لتعليم الأطفال قواعد الأدب والأخلاق، أو المبادرة وقوة الشخصية على نمط حكايات “سندريللا” و”ليلى والذئب”، من دون أن يتساءل أحد عن الأسباب التي جعلت من الربيع العربي انتكاسة في سورية، (وليبيا واليمن)، وإن كان ما يهم هنا هو الموضوع السوري، لتشعبه وللخصوصية السورية، من حيث التنوع الطائفي والعرقي.
يميز فواز جرجس في كتابه “الشرق الأوسط الجديد” بين الثورة واللحظة الثورية، فالثورة “سرعان ما تقلب البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع في حدود زمنية قصيرة نسبيا”، فيما تكون اللحظة الثورية “عرضة للإجهاض والاختطاف أو التقولب مؤسساتيا أو تغدو عرضةً للنكسات”. ويرى صاحب هذه السطور أن الثورة السورية، وعبر لحظتها الثورية المشار إليها، تعرّضت لذلك كله، فقد تم اختطافها، وجرى السعي إلى إجهاضها منذ لحظاتها الأولى. وبغض النظر عن الدور الكبير والمؤثر الذي لعبته دول إقليمية في تحويل وجهة الثورة عن مطالبها الأولى في العدالة والحرية والمساواة، فإن الأسباب الرئيسية تكمن في طبيعة النظام السياسي المستبد الذي انقلبت عليه الجماهير، بعد أن شعرت بضيق الثوب الذي لم يتسع، ولم تتغير مقاساته خمسين عاما، وعلى الرغم من التغييرات الهائلة التي شهدها العالم على الصعد كافة.
مع الربيع العربي، انتقلت الدراسات والأبحاث السياسية من التركيز على طبيعة الأنظمة السياسية وتحرّكاتها وأساليبها إلى الحديث عن الشعوب، عن العمال والفلاحين والفقراء وتحرّكاتهم وتوجهاتهم. ومن هنا، فإن دراسة طبيعة الشعب السوري تكتسب أهميةً، إذا أردنا حقيقة معرفة الأسباب الذاتية التي دفعت الثورة إلى الانحراف، وأن تكون فرصةً سانحة للتقولب والإخضاع لإرادات الأقوياء والممولين، على الرغم من أن الثورة السورية شهدت، في مطالعها، مشاركة واسعة من أبناء الريف المحرومين والفقراء، من سكان أحزمة الجوع حول المدن وأطرافها، وكانت الثورة فرصةً (قد لا يتم تعويضها)، ليتعرّف الشعب السوري على بعضه عن قرب، ويكتشف مدى التفريق الذي لعبته الأنظمة.
سيطر حزب البعث على السلطة، منذ خمسين عاما، ولم تأت هذه السيطرة عبر الحزب وانتشار أفكاره واقتناع الناس بها، وإنما عن طريق الجناح العسكري في الحزب، والذي يتكون من مجموعة ضباط، غالبيتهم من أبناء الريف، ومن أبناء الأقليات الطائفية والعرقية. ولانضمام أبناء الريف والأقليات للجيش أسباب مهمة، في مقدمتها الأسباب الاقتصادية. وعلى رأي الباحث سلامة كيلة “إذا أردنا أن نفهم طبيعة أي سلطةٍ يجب أن نفهم الفئات الاجتماعية التي أصبحت هي ذاتها سلطة”. من هنا، أصبحت السلطة ريفيةً في معظمها، ويغلب عليها الطابع الأقلوي. وتذكر دراسة لجامعة تكساس أنه عشية الثورة السورية كانت ما نسبته 80% من الوظائف الحكومية لأبناء الطائفة العلوية. وأكدت هذه الإحصائية إحصائيات أخرى ودراسات معمقة، وهي ليست الوحيدة التي تورد هذا الرقم الذي يحمل في طياته معاني اقتصادية كثيرة، ارتدت عند الطرف الآخر (المعارضة) طابعا طائفيا بوعي أو من دونه. وهنا تنطبق مقولة لينين “السياسة هي الحديث المكثف عن الاقتصاد”، فلكل ما يجري أسبابه وجذوره الاقتصادية.
يُضاف إلى ذلك تمركز القيادات الفاعلة في الجيش وأجهزة الأمن بأيدي أبناء الطائفة العلوية أيضا، ولا يعني هذا أن النظام طائفي، فلو كان كذلك فعلا، لعمل على رفع مستوى العلويين، وتحسين ظروف معيشتهم، لكنه سلمهم الوظائف الدنيا من الدولة، تاركا لفئة قليلة فقط السيطرة على مقدّرات البلاد والطائفة ذاتها، فبات أبناء الطائفة من كبار المستغلين هم أنفسهم مضطهدي أبناء طائفتهم وجلاديهم، سواء بسواء مع باقي الطوائف والإثنيات. لكن الضربة القاضية التي وجهها النظام للمجتمع السوري كانت في قتل العمل السياسي، عبر إجهاض الحركات والأحزاب السياسية، وقتل الأحزاب القائمة، وهي التي تمتعت سابقا بتاريخ سياسي عريق، وكانت لها قاعدتها الشعبية، إلى أن حفر النظام قبورها بشكل جماعي، وكتب على شاهدتها “الجبهة الوطنية التقدمية”. وبدا النظام، في هذا الشكل، طائفيا، على الرغم من أنه، كما ورد أعلاه، يستثمر الطائفية فقط، ويزجّ أبناء الطائفة إلى الفقر والعوز، انتهاء إلى رميهم في وجه المدفع، ليكونوا أعداء لمعظم أبناء البلاد، دفاعا عن طغمةٍ حاكمةٍ، لا يهمها إلا البقاء في السلطة على حساب كل شيء. وقد أصر النظام في سورية، حقيقةً، على الظهور بهذه الصورة الطائفية، نوعا من الابتزاز للطرف الآخر (المعارضة)، فكان له ما أراد. ولأن هذه المعارضة هي أساسا من طبيعة النظام ذاته، ونظرا إلى غياب العمل السياسي، لم يكن أمام المعارضة من بد غير التوجه نحو العمل الديني، الأمر الذي تلقفته بعض الدول الإقليمية، ودعمته من باب الرد على نظام طائفي، بمعارضة طائفية، أي محاربة النظام بسلاحه.
لا يتوقف الاستفزاز الطائفي الذي مارسه النظام خمسة عقود على الجانبين، العسكري والوظيفي، بل تعداه إلى المجالات الثقافية والفنية، فعمل، عامدا متعمدا، على إقصاء معظم الفنانين السوريين السنة لحساب الفنانين من أبناء طائفته، ففي المؤسسة العامة للسينما، مثلا، أكثر من 40 مخرجا، ليس في تاريخ كثيرين منهم فيلم واحد، إلا الذين أظهروا ولاءً منقطع النظير للطائفة ولحاكمها، فللمخرج عبد اللطيف عبد الحميد أكثر من 12 فيلما منذ بدء عمله في المؤسسة. ويساق هنا هذا الاسم مثلا، لا للتنديد بأعماله أو مناقشتها، وإنما للتأكيد على الطابع الطائفي الذي وصل حتى المؤسسات الثقافية والفنية. كما أن المواطن السوري لم يعد يرى في التلفزة الحكومية التابعة للنظام غير مطربين لأبناء الطائفة (على الديك وحسين الديك وثائر العلي وأذينة العلي)، فيما تم إقصاء آخرين، كانوا من أعلام الغناء في سورية، منهم موفق بهجت وفهد بلان. وحتى الأغاني التراثية تم إغفالها لحساب نشر تراث منطقة الساحل السوري. وبالتأكيد، لا يتم هنا إنكار حق أبناء الساحل في نشر تراثهم وفنونهم، ولكن لا بد من الأخذ بالاعتبار المساحة التي يأخذها من الإعلام، مع وجود إثنيات وطوائف أخرى لها الأحقية نفسها.
وقد مرت فترة على سورية، كان فيها للعلويين الذين يشكلون أقل من 13% من مجموع السكان وزارات الإعلام والدفاع والثقافة ومعاون وزير الثقافة ومدير المؤسسة العامة للسينما (أصبح وزيرا للثقافة حاليا). والأكثر من ذلك، أصر النظام على التدخل حتى في الشؤون الدينية السنية، فكانت المناصب العليا فيها من نصيب الأقلية الكردية، وفي هذا استفزاز للمكون العربي السني، فالمفتي ووزير الأوقاف كانا من الأكراد، وكذا المنشدين وأئمة المساجد.
وكان لذلك كله انعكاساته عند الطرف الآخر، فالنظام قام بكل ما يستطيع، للتفريق بين مكونات المجتمع السوري، أفقيا وعموديا، طائفيا وإثنيا، لضمان عدم وحدة الصف ضد استبداده، وضمان عدم وجود مواطنين أحرار، يجمعهم الفقر والحلم بالعدالة والمساواة. ويكتب، في هذا الشأن، فواز جرجس، في كتابه المشار إليه أعلاه “يجب ألا يستغرب المرء هياجا بين الأعراق والديانات وحروبا أهلية، لأن الطغاة يعتمدون سياسة فرق تسد وإقصاء قطاعات واسعة من الجماهير”.
وكانت الفئات الريفية قد سيطرت على الجيش في فترة الاحتلال الفرنسي، واستكملت سيطرتها بعد الاستقلال، نتيجة عوامل اقتصادية، أهمها الفقر الذي كان يعانيه سكان الريف، وتحكّم كبار الملاك بمصائر الفلاحين وعائلاتهم، واشتداد الفوارق الطبقية بين الملاك وباقي العاملين في الحقل الزراعي. وكان الجيش هو المؤسسة الحكومية الوحيدة التي تقدّم خدمات الصحة المجانية والتقاعد، وأحيانا المسكن المريح. وهذا ما يرى فيه الفلاح وظيفةً لائقة، تؤمن له عيشا كريما، وملاذا من الظلم الإقطاعي الذي يعانيه سكان الريف.
تضاف إلى ذلك هزيمة الجيوش العربية في نكبة 1948، وارتفاع الصوت القومي، والدعوات إلى تشكيل جيوش كبيرة، وقادرة على تحرير الأرض المغتصبة. وقد أسهمت هذه العوامل وغيرها في تشكيل جيشٍ، قوامه الفئات الفلاحية، والتي أصبحت، خصوصا بعد 1963، الفئات المتحكمة بمصير سورية، فصار الريف المحرّك للمدينة، ولم يعد تابعا خدميا للمدينة التي شكلت، عبر عصور سابقة، الاسفنجة التي تمتص فائض تراكم العمل الريفي، وصار الريف هو الأساس، والمدينة هي المهمشة والتابعة. وعلى الرغم من ذلك، كان الانتقال من الريف إلى المدينة يسهم، من دون وعي، في إعادة تمركز المدينة، واستعادة مكانتها الرائدة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فعملية التأميم واستيلاء أبناء الريف على السلطة فتح المجال لوظائف جديدة، كان النازحون من الريف مادتها الأساس، فتم الاستيلاء على الوظائف الحكومية المدنية أيضا. وبدلا من قيام نهضة صناعية تواكب هذا التمركز، تم تدمير البنى التحتية في المدن، وقتل الصناعة الناشئة عبر نهب الدولة. وبالتالي، تحول شعار الوحدة والتطور والتقدم الصناعي وحلم رفع الظلم عن الريف إلى ما يشبه احتلال الريف المدينة، فلا الريف بات ريفا، ولا المدن استطاعت حماية نفسها ومكانتها في مواجهة الكم الهائل من المهاجرين الراغبين في تحسين ظروف معيشتهم.
عسكريا، أفضت الأحداث الدامية التي وقعت بين العسكر عامي 1963 و1966 إلى تمركز القرار العسكري، وسيطرة أبناء الريف الساحلي عليه، مع تراجع واضح لدور الضباط والعسكر من أبناء ريف سهل حوران (الدروز خصوصا)، في حين تركت الوظائف العسكرية الثانوية للمسيحيين، وتلاشى دور الأكراد بشكل شبه نهائي، فيما تم التخلص نهائيا من قيادات الحزب ذات الأصول المدينية. وفي عام 1970، تمت السيطرة العسكرية على السلطة، وصار الحزب تابعا، بل مجرّد واجهةٍ، يتستر خلفها العسكر، وتراجع حلم (شعار) الوحدة إلى الدرجتين، الثانية والثالثة، ثم تلاشى نهائيا من التداول. وتوقف الحزب عن مزاولة أية نشاطات قومية، وتجاوز مفهوم رفع الحيف عن الريف، وتحقيق نهضة زراعية، إلى مديات خطرة قوامها التناقض بين الحلمين، العام والشخصي، فلم يعد مهما عند الضابط الكبير، ذي الخلفية الريفية، رفع الظلم التاريخي عن أبناء ريفه، وإنما صار حلما شخصيا يهدف إلى مراكمة الثروة، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستفادة من النهب العام للدولة وأملاكها التي صادرتها عبر مراسيم التأميم. وباتت الأجهزة الأمنية الفاعل الأساس في عمل البنوك والمصارف والاستثمارات التجارية، معيدة تشكيل طبقة بورجوازية جديدة، قوامها بعض كبار الملاك القدامى، بالتعاون والتآزر مع بورجوازية جديدة صاعدة، لتحقيق أكبر قدر من الثروة، مستندة إلى كل وسائل القمع الممكنة، والأكثر وحشية (المخابرات والجيش)، وصار كبار الضباط شركاء مع كبار المستثمرين ورجال الأعمال.
تعتمد الأنظمة الاستبدادية في دعم بقائها على أبناء العشيرة التي تنتمي إليها، وجاءت منها، أو أبناء الطائفة والمذهب أو المدينة. وهذا ما كان مع نظام “البعث”، ومن بعده النظام الذي أسس له حافظ الأسد، إذ اعتمد ليس على أبناء طائفته، وإنما تحديدا على أبناء العشيرة الواحدة ضمن الطائفة العلوية ذاتها، والمقسمة أصلا إلى مجموعة عشائر متناحرة وغير منسجمة، فتم استبعاد أبناء العشائر الأخرى (ماخوسيين ومرشديين) من كل المناصب الحساسة في الدولة، وحصرها في أبناء العشيرة “الكلازية”. وهنا لا يكون النظام طائفيا فقط كما يبدو، وإنما أيضا هو عشائري بالتحديد، فسيطر أبناء “الكلازية” على قيادات الأجهزة الأمنية، والمناصب المهمة، والفاعلة في الجيش، وتمركزت الثروة في أيديهم، وشهدت مناطقهم نهضة وظيفية كبيرة، على حساب تهميش المناطق التي يسكنها أبناء العشائر الأخرى من الطائفة. وبحجة المعركة مع العدو الإسرائيلي، ومقاومة المشروع الرجعي العربي، تم التخلص من كل المعارضين بطريقة عنيفة، وساد القمع والقهر، صار توجيه الانتقاد على مسوى مدير شركةٍ يعني الخيانة القومية والتعامل مع الرجعية والصهيوينة.
هنا بدأ التخثر يصيب الاقتصاد السوري، نهب عام ومنظم، خطط اقتصادية يتم وضعها وترتيبها في أجهزة الأمن بالشكل الذي يخدم مصالح الفئة الحاكمة، ومصالح المتعاونين معها من أبناء البرجوازية الجديدة، وصار أبناء كبار الضباط رجال أعمال ومستثمرين كبارا، والمشكلة أن تلك الأموال المنهوبة لم تكن تستثمر في البلاد، وإنما يجري تصديرها إلى الخارج، لتصبح جزءا من الشركات الخدمية العالمية. ومع مجيء بشار الأسد إلى السلطة، كانت عملية التحول الاقتصادي والاجتماعي قد حققت أهدافها في تحويل أبناء كبار الموظفين والضباط إلى رجال أعمال المستقبل. وكان لا بد من الانفتاح والانقياد لشروط صندوق النقد الدولي، فتم رفع الدعم عن جميع السلع التي كانت مدعمة سابقا، ما عدا الخبز، ودخلت سورية مجال الاقتصاد المعولم، باقتصاد منهوب ومنهك، قطاع عام متهالك، وزراعة على وشك الموت، بطالة عريضة بعرض البلاد وطولها، ارتفاع نسب الفقر. وبهذا الاقتصاد، دخلت سورية العولمة، وتم إعلان الانفتاح الذي أغرق السوق السورية بالبضائع الغريبة، وبدأت تهيئة الظروف لإعلان موت القطاع العام، تمهيدا لإعلان دفنه (بيعه للمستثمرين من أبناء الطبقة الحاكمة)، وظهرت في المجتمع السوري وظائف لم يعهدها الناس سابقا، وبدت غريبة عن مجتمعنا، وبات الاقتصاد المحلي بكليته مجرّد اقتصاد خدمي تابع، وفي خدمة الاستثمارات الأجنبية. ترافق ذلك مع اشتداد القبضة الأمنية، وارتفاع حدة الممارسات العنيفة ضد أية احتجاجات، منها رفع الحصانة عن عضوين في مجلس الشعب، والحكم عليهما بالسجن، بعد قرارت حكومية أدت إلى إفلاسهما. والحكم بالسجن على
وزير سابق، لمجرد رفع الصوت بالاحتجاج على النهب المنظم الذي تمارسه السلطة على ثروات الدولة وأعمالها.
لم تندلع الثورة السورية أوائل العام 2011 طلبا للحرية فقط، وفي قول ذلك ظلم متعمد للثورة، وتسهيل لطعنها في أكثر من مكان في جسد مطالبها. ولم يكن رفع شعار الحرية، على أهميته القصوى، في صالح الثورة، إذ تم، خلف هذا الشعار، حجب الأسباب الأخرى لقيام الانتفاضة الشعبية، فالاحتجاج لم يكن فقط طلبا للديمقراطية، وإنما هي أيضا، وفي الصميم، احتجاج على النهب والتسلط على مقدّرات الدولة، احتجاج على ارتفاع نسب البطالة، وتراجع الخدمات التعليمية والصحية، وتمركز الثروة في أيدي عائلة واحدة، مع بعض المتعاونين معها، والمنبطحين أمام جبروتها وعسكرها وأجهزة أمنها. احتجاج على إقصاء القطاعات الأوسع من المجتمع عن المساهمة في الحياة الاقتصادية والسياسية والفكرية للبلاد.
انفجرت الاحتجاجات، واتخذ بعضها طابعا طائفيا، وارتفعت شعارات مخيفة بطائفيتها فعلا. وهذا طبيعي وفقا للسياق الذي جاءت عليه السطور السابقة. أضف إلى ذلك السياقات التي جاءت بعد انطلاقة الثورة، وهي تعميق الفرز الطائفي الذي اعتمده النظام، والتخويف الذي نشره الإعلام الرسمي، مستفيدا من صرخة غضب أطلقها المحتجون رد فعل على ظلم مورس ضدهم نصف قرن.
فؤاد حميرة
العربي الجديد