مقدمة
من الصعب أحيانًا تصور في العام 2018 أنه كان هناك رؤية قائمة في غزة مختلفة عن الرؤية الحالية المعروضة في الأخبار، وتلك التي يعيشونها سكان غزة يوميًا. ولكنني كنت عضوًا في مجموعة متفائلة من التكنوقراط الذين أعدوا خارطة طريق واضحة لغزة بعد فك الارتباط الأحادي من قبل إسرائيل في العام 2005، ومن ثم راقبت تداعي تلك الخطة. فالعبر المستخلصة من تلك الفترة حول أسباب فشل هذه الرؤية الأكثر تفاؤلًا لغزة تشكل جزءًا لا يتجزأ من المحادثات الأوسع حول النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، ومضادًا مهمًا لسيرة تبين تصاعد حماس والعنف اللاحق على أنه أمر محتم. ولكن من الأساسي للاعبين الدوليين والإقليميين على حد سواء أن يفكروا في التجارب الفاشلة المتعلقة بالمساعدة التقنية لغزة فيما تستمر جهود الأسرة الدولية لإيجاد حل لأزمة متفاقمة.
يوم مغادرة إسرائيل لغزة
في ساعات الصباح الأولى في 12 أيلول/سبتمبر من العام 2005، كنت من أوائل الأشخاص الذين دخلوا المستوطنة اليهودية نتساريم التي تم إخلاؤها، جنوب مدينة غزة مباشرةً، فيما كان آخر الجنود الإسرائيليين يغادرون غزة. وعند شروق الشمس، كنت في غوش قطيف، وهي أكبر كتلة مستوطنات إسرائيلية تمتد على طول ساحل غزة الجنوبي الجميل المطل على البحر المتوسط. ومن هناك، توجهت إلى الجانب الفلسطيني من معبر رفح الحدودي الذي تم إخلاؤه أيضًا مع طريق فيلاديلفي الممتدة على 13 كلم من الحدود بين غزة ومصر. وقد اختتمت نهاري في المستوطنات الثلاثة الصغيرة التي تم إخلاؤها وهي دوجيت ونيسانيت وعيلاي سيناء، الواقعة على طول السياج الشمالي بين غزة وإسرائيل وفي منطقة بيت حانون/إيرز الصناعية.
إن المشهد الذي رأيته في المستوطنات السابقة في ذلك اليوم كانت تسوده فوضى عارمة ومطلقة. فعشرات آلاف الأشخاص الذين كانوا يعيشون في مخيمات اللاجئين الثمانية في غزة وفي القرى الصغيرة القليلة المتاخمة للمستوطنات انتشروا في الممتلكات التي تم إخلاؤها وأخذوا ما استطاعوا أخذه من المباني التي تركها المستوطنون الإسرائيليون وراءهم، من الأنابيب والأبواب إلى الخرسانةومواد بناء أخرى أساسية. ولم يشاهَد أي من رجالالشرطة الفلسطينية الذين تم تعيينهم لتوفير الأمن. ولم تبقَ سوى الدفيئات الواقعة في المستوطنات الوسطى والجنوبية على حالها نظرًا لوجود حراس أمن خاص تم توظيفهم بشكل مسبق لتوفير الحماية. وفي نهاية اليوم، لم يبقَ سوى الأنقاض والحطام.
الاستعدادات الفلسطينية لليوم التالي
قصدت تلك المواقع مرات كثيرة ومتتالية كواحد من 40 خبير فلسطيني تم حشدهم لتحضير غزة لما بعد فك الارتباط. كان الفريق يضم خبراء تقنيين رفيعي المستوى في الزراعة والصناعة والتجارة والمعابر الحدودية والمياه والكهرباء والصرف الصحي وتخطيط الأراضي والإسكان والاتصالات. وكنا بمعظمنا قادمين من غزة، بمساعدة عدد صغير من الخبراء القانونيين والتجاريين وخبراء المياه التابعينلـ “وحدة دعم المفاوضات” في منظمة التحرير الفلسطينية التي تتخذ رام الله مقرًا لها.
عمل فريقنا أيضًا بتنسيق وثيق مع البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمات دولية أخرى تعمل في المناطق الفلسطينية. ففي فترات منتظمة، كنا نعقد اجتماعات مع المجتمع المدني الفلسطيني والقطاع الخاص والفصائل السياسية في قطاع غزة والضفة الغربية لعرض عملنا على هذه الجهات والاستماع إلى تعليقاتها. تمت أيضًا إحاطة أسرة المانحين وممثلي البعثات الدبلوماسية في السلطة الفلسطينية حول خططنا التقنية. وكان الانطباع العام الذي كونّاه في كافة تلك الاجتماعات إيجابيًا ومشجعًا للغاية.
وبعد شهرين من الانسحاب الأحادي الإسرائيلي من غزة، في 15 تشرين الثاني/نوفمبر، توسطت الولايات المتحدة لعقد اتفاق التنقل والعبور بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وقد عزز هذا الاتفاق على ما يبدو إلى حد كبير آفاق التنفيذ الناجح لخططنا التقنية المتعلقة بغزة ما بعد فك الارتباط. فقد صُمم اتفاق التنقل والعبور لتحسين معاملات غزة التجارية العابرة للحدود مع إسرائيل، ما يتيح مرورًا آمنًا بين غزة والضفة الغربية. كما سهل اتفاق التنقل والعبور عمليات التصدير الزراعية من المستوطنات الإسرائيلية السابقة التابعة لغزة وفصّل الاستراتيجية التشغيلية لمعبر رفح الحدودي المراقَب من قبل الاتحاد الأوروبي وسمح باستئناف المحادثات المتعلقة ببناء ميناء غزة وإعادة بناء مطار غزة الذي دُمر خلال الأشهر الأولى من الانتفاضة الثانية التي اندلعت في 28 أيلول/سبتمبر من العام 2000.
تلاشي الآمال
سرعان ما تبددت آمالنا وتطلعاتنا كتكنوقراط لبدء فصل جديد من تاريخ غزة. فالنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني الأوسع والسياسات الفلسطينية الداخلية أثبتت بأنها أقوى من خططنا التقنية المتعلقة بغزة. ونحن لسنا بسذّج، إذ لم نتوقع تنفيذ خططنا، أو في هذه الحالة اتفاق التنقل والعبور بذاته، بسهولة وسلاسة. ولكن حتى في أسوأ كوابيسنا، لم نتصور غزة كما هي عليه اليوم بعد 13 عامًا من فك الارتباط، أي مكان ممزق بأكثر من عقد من الانقسامات السياسية الفلسطينية المريرة وثلاث حروب بين حماس وإسرائيل وحظر خانق وعزلة شبه كلية عن بقية العالم. بنتيجة ذلك، يعاني سكان غزة اليوم من ارتفاع معدلات البطالة والفقر وانعدام الأمن الغذائي وتداعي الخدمات الأساسية والبنى التحتية العامة وتراجع اقتصاد القطاع الخاص والانتشار الواسع لليأس والإحباط الكلي بين سكان غزة الذين يبلغ عددهم مليونين.
إسرائيل وحماس ووقائع فك الارتباط
قادت مجموعة عوامل إلى هذه النتيجة المؤسفة، بما فيها بشكل أساسي مقاربة إسرائيل وحماس لخطة فك الارتباط وتطبيقها وكيفية عرضها.
من الجانب الإسرائيلي، بالرغم من أن خطة إخلاء غزة، التي فاجأت الجميع عندما تم الإعلان عنها للمرة الأولى في كانون الأول/ديسمبر من العام 2003 من قبل رئيس الوزراء السابق أرييل شارون، اعتمدت بشكل كبير على مصلحة إسرائيل الاستراتيجية، فإن انسحاب إسرائيل من غزة كان أمرًا محتمًا، وهي نقطة غالبًا ما يتم تجاهلها في الكتابات المعنية بفك الارتباط عن غزة. وبخلاف الضفة الغربية، لم تبرز قط آفاق الاحتلال الإسرائيلي لغزة على المدى الطويل أو تُعتبر حتى منطقية من الناحية الاستراتيجية. فلا الجغرافيا ولا الديموغرافيا الخاصة بالمنطقة تسمح بوجود إسرائيلي مطول وسط سكان فلسطينيين شباب ومتطورينمقيدينفي أراضٍ صغيرة. وتشكل غزة في نهاية المطاف جزءًاصغيرًا من الأراضي، يُعتبر إحدى أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكان في العالم، إذ كان عدد سكانها عند فك الارتباط يبلغ 1.3 مليون، مع زيادة سنوية بـ 3.5%. وعلى ضوء هذه الوقائع، كان فك الارتباط الاسرائيلي في الواقع متوقعًا على المستوى الاستراتيجي، إذ أنه كان مسألة وقت فحسب.
بالمقابل، قدمت حماس من جهتها فك الارتباط كنصر، من خلال تبرير فعالية مقاربة المقاومة المسلحة الخاصة بها التي نجحت في “تحرير” غزة. ولم يكن واقع أن الخطوة الإسرائيلية لم تكن مكتملة مهمًا بالنسبة إلى حماس (بعد فك الارتباط، أبقت إسرائيل على سيطرةحصرية على فضاء غزة الجوي ومياهها الإقليمية وسجل السكان الفلسطينيين والفضاء الكهرومغناطيسي ودخول/خروج السلع والأشخاص من/إلى غزة، باستثناء حركة الأشخاص عبر معبر رفح الحدودي مع مصر).
في اندفاعها للاستفادة من إنجازها المعلن المتمثل بانتصار المقاومة، تنافست حماس مع حركة فتح العلمانية في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي عُقدت في كانون الثاني/يناير من العام 2006 وفازت في النهاية، ما شكل مفاجأة للجميع.
وهكذا، ومع خروج آخر جندي إسرائيلي من غزة في ساعات الصباح الأولى في 12 أيلول/سبتمبر 2005، تم إغلاق غزة في الواقع وتسليمها إلى حماس. وقد أصبحت عملية التسليم رسمية من خلال الانتصار الانتخابي المزلزل لحماس في بداية العام 2006، وتم تأكيدها بعد ذلك في منتصف حزيران/يونيو 2007 مع استيلاء حماس العنيف على قطاع غزة برمته. وكما أظهرت السنوات المأساوية اللاحقة، أخذ وضع غزة بالتراجع مذاك.
فرصة ضائعة؟
بما أن إسرائيل وحماس قاما بتظهير فك الارتباط كوسيلة لخدمة مصالحهما السياسية الخاصة، لم يكن هناك مجال كبير، هذا إن وُجد أصلًا، لإنجاح فك الارتباط من خلال الجهود الدولية الرامية إلى توفير منافع اقتصادية ملموسة لغزة. وقد كانت هناك عدة محاولات في هذا السياق.
قاد البنك الدولي هذه المساعي في كانون الأول/ديسمبر من العام 2004 عبر توفير مجموعة أوراق تقنية حول تحديث معابر غزة الحدودية مع إسرائيل وإنشاء مناطق صناعية ومناطق تصدير وجعل الاقتصاد الفلسطيني تنافسيًا. وفي 14 نيسان/إبريل من العام 2005، تم تعيين الرئيس السابق للبنك الدولي جيمس وولفنسون كمبعوث خاص للجنة الرباعية حول الشرق الأوسط لفك الارتباط عن غزة. وبعد شهرين، في تموز/يوليو، تعهدت قمة مجموعة الثمانية التي عُقدت في غلين ايفلز في اسكتلندابتقديم دعم مالي يصل إلى 3 مليارات دولار سنويًا على مدى ثلاث سنوات لمساعدة وولفنسون على إنجاز مهمته. وتضمنت مبادرات أخرى للقطاع الخاص مخصصة لغزة استثمارات في دفيئات المستوطنات الإسرائيلية السابقة في جنوب غزة، وفي منطقة بيت حانون إيرز الصناعية في الطرف الشمالي لقطاع غزة.
تبدو هذه الجهود الدولية، التي تشكل جزءًا من بدايات تاريخ فك الارتباط، ذكرى بعيدة اليوم، إذ تم تضييعها في ظل الدمار الذي لحق بغزة في الماضي القريب. فلو تسنت فرصة ترجمة هذه الجهود على أرض الواقع إلى أقصى درجة، كانت لتقدم لغزة فرصة جيدة بمستقبل مختلف، إلا أن ذلك لم يحصل. وبما أن إسرائيل وحماس لديهما حكايات متناقضة حول فك الارتباط، كان الفشل شبه محتم. بالإضافة إلى ذلك، كانت الجهود الدولية ذات طبيعة تقنية محض، وكانت بالتالي غير ملائمة بطبيعتها للتعامل مع “مسألة غزة” المترسخة بعمق في سياق نزاعات شديد التعقيد. وسرعان ما اصطدمت هذه الجهود الدولية بحائط مسدود عند انهيارها في كانون الثاني/يناير من العام 2006، مع صعود حماس المفاجئ إلى السلطة، وأُعلن لاحقًا عن فشلها مع استيلاء حماس المسلح على غزة في منتصف العام 2007.
العبر المستخلصة
لم تغير خطة فك الارتباط سوء الحظ المستمر اللاحق بغزة. يمكن أن تعزى هذه النتيجةإلى أسباب متعددة. ولكن يمكن استخلاص عبرة واضحة: من غير المرجح أن تنجح الحلول التقنية لمشاكل غزة المعقدة، ما لم يتوفر سياق سياسي وأمني داعم. نحن مدركونأصلًا لهذا الواقع. ولكن يبدو أن هذه العبرة وتداعياتها على مستوى السياسات غير مفهومة جيدًا اليوم. على سبيل المثال، بالرغم من الإدراك المتزايد بأن تردي ظروف العيش في غزة يقترب بسرعة من نقطة الانهيار أو قد بلغها أصلًا، فالحلول التي يتم تقديمها، سواء من قبل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أو الإدارة الأمريكية الحالية، تتخذ كلها شكل “قائمة مشاريع عملاقة” تهدف إلى إنقاذ اقتصاد غزة المتداعي. وبالرغم من دورها المحوري في معالجة الصعوبات الاقتصادية الاجتماعية المتزايدة في غزة والنقص المزمن في خدماتها العامة الأساسية، لا يمكن، انطلاقًا من خبرة غزة ما بعد فك الارتباط، تنفيذ هذه المشاريع وتحقيق كامل إمكاناتها، إلا إذا وفقط إذا استقر الوضع السياسي والأمني في غزة أولًا. يعيد هذا الشرط مسألة غزة إلى سياقها الأوسع حيث تنتمي، وحيث ما زال ضروريًا إنجاز أعمال كثيرة على تلك الجبهة من قبل جميع الأطراف المعنية، بما فيها الفلسطينيين بأنفسهم.