لا شك أن أهم تحد لاتفاق سوتشي 17 سبتمبر/أيلول الماضي بين تركيا وروسيا حول إدلب، كان التزام المنظمات السورية التي توصف بالراديكالية بسحب أسلحتها الثقيلة من المنطقة منزوعة السلاح بحسب الاتفاق إلى منطقة أخرى من مناطق خفض التصعيد في إدلب، وسبب هذا التحدي أن تلك المنظمات أعلنت مباشرة بعد توقيع الاتفاق بين تركيا وروسيا، أنها ترفض الانسحاب وغير موافقة على ذلك الاتفاق، وهذا يعني أن أمام الحكومة التركية عقبة كبيرة لتنفيذ ما اتفقت عليه مع روسيا الاتحادية، أو فشل محاولتها لإنقاذ ما يزيد عن ثلاثة ملايين مواطن سوري في إدلب وغيرها.
وقبل أن تعلن الحكومة التركية سحب هذه المنظمات أسلحتها الثقيلة بخمسة أيام أعلن الرئيس الروسي بوتين عن مواقف إيجابية ومرحبة بالجهود التركية لإنجاح الاتفاق، فقال بوتين خلال مؤتمر صحافي مع المستشار النمساوي سبستيان كورز، 4 أكتوبر/تشرين الأول الجاري بمدينة سان بطرسبرغ الروسية: “إن بلاده تعمل بالتعاون مع تركيا في إطار اتفاق سوتشي للحفاظ على وقف إطلاق النار في محافظة إدلب السورية، وأن الوضع فيها بدأ بالعودة إلى طبيعته بفضل التدابير التي اتخذتها تركيا وروسيا”، وأضاف بوتين: “الإجراءات بهذا الخصوص تتقدم بالاتجاه الصحيح، ولديّ أسباب للثقة بالوصول إلى أهدافنا، ووسائلنا التي اخترناها للوصول لتلك الأهداف تعمل بشكل فعال”.
هذه التصريحات الروسية صدرت بعد إعلان الرئيس التركي أردوغان يوم الأول من أكتوبر الجاري عن بدء خروج المجموعات الراديكالية من المنطقة منزوعة السلاح في إدلب، وقبل أن تعلن وزارة الدفاع التركية عن: “تشكيل المنطقة المنزوعة السلاح في محافظة إدلب السورية وسحب الأسلحة الثقيلة من هناك بموجب اتفاق سوتشي، الذي تم توقيعه بين الدولتين الضامنتين تركيا وروسيا“، هذا الإعلان من وزارة الدفاع التركية جاء موافقاً للبند السادس من الاتفاق الذي ينص على: “سحب جميع الدبابات وقاذفات الصواريخ المتعددة والمدفعية ومدافع الهاون الخاصة بالأطراف المتقاتلة، من داخل المنطقة منزوعة التسليح، بحلول 10 أكتوبر 2018″، بينما البند الخامس ينصُّ على: “التخلص من جميع الجماعات الإرهابية الراديكالية من داخل المنطقة منزوعة السلاح، بحلول 15 أكتوبر”.
روسيا اليوم في سوريا ليست حليفا عسكريا فقط، وإنما صاحبة قرار سياسي وعسكري
والخطوة التالية ستكون تشكيل دوريات مشتركة بين تركيا وروسيا لمراقبة المنطقة، والالتزام بتطبيق الاتفاق، ويمكن القول لحمايته من الاختراق من الجهات التي جاء الاتفاق معارضاً لرغباتها ورؤيتها للحل العسكري والسياسي في سوريا، وهي حكومة بشار الأسد وحلفائه من الإيرانيين، من الحرس الثوري الايراني وحزب الله اللبناني، فهؤلاء يريدون الانتهاء كليا من وجود معارضة سورية مسلحة، وهذا ما جعل التنظيمات التي سحبت أسلحتها الثقيلة من ادلب إلى خارجها على بعد 15 كيلومترا تحتفظ بإمكانيات عسكرية كافية لصدّ أي هجوم محتمل قد تقدم عليه قوات الأسد أوالميليشيات المتحالفة معها.
هذه النتائج أكدتها المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا للصحافيين ردا على سؤال بشأن التقارير التركية قائلة: “إن نحو مئة وحدة أسلحة ثقيلة تم سحبها من المنطقة”، أي أن الحكومة الروسية راضية عن تطبيق المعارضة السورية لبنود الاتفاق، وفي المقابل أعلنت قيادة المعارضة السورية بأنها تأمل استمرار نجاح الاتفاق أيضاً؛ فقال رئيس الائتلاف السوري المعارض عبد الرحمن مصطفى: “إن تنفيذ اتفاق سوتشي بشأن إدلب يقوي من مكانة المعارضة والحل السياسي”، وهذا الربط بين الحل العسكري والسياسي مؤشرٌ للتطلعات المقبلة، فتركيا سعت لتطبيق رؤيتها غرب الفرات وعفرين على إدلب، بوقف القتال فيها، ثم تأمين الجلوس إلى مائدة المفاوضات السياسية ممثلة من كافة أطراف النزاع الداخلي أولاً، وبضمانات دولية بالأخص من روسيا وتركيا ثانياً، وإلا فإن استمرار الأزمة هو الخطر المقبل، وهو ما لا تريده روسيا ولا تركيا، والخيار الإيراني وحده غير ممكن الأخذ به ولا تطبيقه بعد سبع سنوات من الصراع المسلح.
روسيا هي الأخرى أمام تحدي حماية الاتفاق مثل تركيا، فروسيا مطالبة بأن تحفظ منع قوات الأسد من انتهاك الاتفاق، فالحل المقبل ينبغي أن يكون سياسياً، وضمن الضغوط الأمريكية والفرنسية والأوروبية لن يكون خارج مؤتمر جنيف، وهذا يعني أن جنيف المقبل ينبغي أن يقرر مصير الدولة السورية، وليس تلبية مطالب بشار الأسد فقط، والتزام جميع الفصائل المعارضة باتفاق سوتشي في إدلب يعني أنها سوف تعمل على الحل السياسي بعد الآن، وإذا كان بشار الأسد يظن أنه يستطيع أن ينهي الأزمة في سوريا بالحل العسكري، فإن اول من سيصطدم معه، القيادة الروسية، ومع رؤية بوتين للحل السياسي في سوريا، فبشار الأسد لم ولن يستطيع حسم الصراع العسكري وحده، كما أن إيران وميليشياتها لم ولن تستطيع ذلك أيضاً، ومخالفتهم للرؤية الروسية يعني أنهم سوف يفقدون الحليف الدولي الذي وفر لهم شرط البقاء في سوريا حتى اليوم، فروسيا اليوم في سوريا ليست حليفا عسكريا فقط، وإنما صاحبة قرار سياسي وعسكري، ومجرد اتفاقها مع تركيا وحدها على إدلب بدون معارضة علنية ولا عملية من سوريا وإيران حتى الآن، يعني أنهما فاقدان حق الرفض أولاً، أو أنهما فاقدان إمكانية المعارضة العسكرية وحدهما ثانياً، وأنهما لا يستطيعان الطلب من روسيا مغادرة سوريا وإنهاء تواجدها العسكري فيها، فروسيا الاتحادية أخذت من حكومة بشار الأسد المواثيق والاتفاقيات، التي تخولها التصرف في سوريا بموافقتها أو بدون موافقتها أيضاً.
وأكثر من ذلك فإن روسيا اليوم غير مستعجلة في الحل السياسي أيضاً، وكأنها ترغب بأخذ قسط من الراحة بعد ثلاث سنوات من القتال العنيف الذي لم تتوقعه، فقد جاءت لحرب ثلاثة أشهر وإذا بها ثلاث سنوات، وبدون معرفة نهايتها لو استمرت بسماع الرأي الإيراني، ودليل ذلك تصريح وزير الخارجية الروسي لابروف قائلاً: “إن بلاده لا ترى أي سبب للضغط على عملية تشكيل لجنة صياغة الدستور في سوريا”، وقال: “لا نرى أي سبب من أجل الضغط على العملية، وتحديد تاريخ مصطنع للبدء بعملها، فأهم شيء هنا هو الجودة” في تعقيبه على ما قررته وفود الدول الضامنة لمسار أستانة.
إن روسيا اليوم امام فرصة الراحة من المأزق العسكري الذي أدخلتها فيه إيران، فنفوذها السياسي السابق في سوريا كان يكفيها، ولكن استنجاد إيران بها جعلها ملزمة أمام الشعب الروسي والعالم أن تكون على مستوى الأزمة، وإلا فإن فشلها سوف ينعكس على مستقبل بوتين وحزبه داخل روسيا والعالم. وهي اليوم إن كانت بحاجة إلى المليشيات الإيرانية في سوريا لحماية قواعدها العسكرية، فإن ذلك ليس ضروريا إذا ضمنت حماية قواعدها في سوريا بدون المليشيات الإيرانية، وهو ما تعمل عليه من خلال التفاهم مع الفصائل السورية المسلحة وغيرها، فروسيا لا يهمها الآن سرعة الحل بقدر ما يهمها تأمين حياة جنودها وقواتها العسكرية في سوريا، لحين انتهاء الأزمة السورية، وانتهاؤها لن يتحقق على يدي بشار ولا إيران وحدهما، والنتيجة أن روسيا وجدت أملاً للخروج من سوريا ـ غير معلنة هزيمتها ـ بالتحالف مع تركيا، ولا تستطيع ذلك قبل أن تضمن لتركيا تواجدا عسكريا داخل سوريا لفترة محدودة، لحين تنفيذ تركيا رؤيتها للحل بالاتفاق مع روسيا فيما يخص وقف اطلاق النار، ومن ثم التوصل لحل سياسي يضمن حقوق الشعب السوري المدنية والسياسية والوحدة الوطنية، بما يؤدي إلى إقامة سوريا الديمقراطية، فالمراهنة الروسية الرئيسة اليوم على تركيا، وقد عبر عن ذلك لابروف بقوله: “إن الشركاء الأتراك يلعبون الدور الرئيسي في تنفيذ اتفاق إدلب”.
وبالمقابل فإن تركيا لا تجد بديلا عن الاتفاق مع روسيا لتضمن سلامة ما تبقى من الشعب السوري أولاً، وضمان الحدود الجنوبية لتركيا ثانياً، لأن أمريكا تعمل على استمرار الأزمة والاقتتال في سوريا، بهدف إضعافها اكثر واستنزاف إيران وروسيا فيها اكثر، واستنزاف تركيا أيضاً، بدليل ان امريكا زودت تنظيم “ي ب ك” بمعدات حفر لاستكمال تطويق محيط مدينة منبج شمالي سوريا، بالحفر والخنادق والمتاريس، وأشارت المصادر إلى أن الحفر والمتاريس تمتد على طول 29.3 كيلومتر، وتتقدمها سواتر ترابية ذات ارتفاعات مختلفة، وهذا يعني أن أمريكا تعمل لإدامة أوضاع منبج على ما هي عليه لسنوات مقبلة، فأمريكا تعمل ضد ما يتم الاتفاق عليه مع تركيا في منبج وشرق الفرات، ما يجعل تركيا تتشارك مع روسيا في الرؤية لشرق الفرات أيضاً، فروسيا أعربت عن قلقها من الوضع شرقي نهر الفرات بسوريا، بحسب تصرح المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، ما يجعل روسيا اليوم أكثر رغبة بالاسترخاء العسكري والسياسي في سوريا طالما ان شرق الفرات هو بيد أمريكا وميليشياتها الكردية حصرياً، بل إن مشاريع إعمار سوريا من وجهة نظر روسية بعيدة الحصول طالما أن امريكا تشترط خروج كامل الميليشيات الإيرانية من سوريا قبل الاتفاق على حصصها في دعم الاعمار ماليا وماديا.
محمد زاهد جول
القدس العربي