بعد اعترافه بأن «حلّ الدولتين» هو الحل العملي للشعبين الفلسطيني والاسرائيلي، أعلن الرئيس دونالد ترامب تراجعه عن هذه التسوية. وأكد في مؤتمره الصحافي أنه ينوي عرض خطته السياسية في شهر كانون الثاني (يناير) من العام المقبل.
واتصل به رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو ليطلب منه تأجيل عرض الخطة لأن التوقيت غير مناسب، كونه يستعد لإجراء انتخابات في نهاية هذه السنة. وذكّره أيضاً بأن هذا التوقيت غير مناسب للطرف الفلسطيني الذي تكلم باسمه في الجمعية العامة رئيس السلطة محمود عباس.
وأشارت وسائل الإعلام التي غطت جلسات الجمعية العامة خلال هذه الدورة إلى اللهجة الحادة التي استخدمها الرئيس عباس للإعراب عن استيائه من الدور الذي قام به ترامب، الأمر الذي أفقده صفة الوسيط المحايد.
ولفت في خطابه إلى اعتراف الإدارة الأميركية بالقدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل، وإغلاقها مكتب بعثة منظمة التحرير في واشنطن، ثم انسحابها من عملية تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين. وحذر من تداعيات هذه القرارات الخاطئة، خصوصاً بالنسبة إلى مليوني شخص قال أنهم يستعدون لانفجار مسلح في غزة المطوَّقة.
رئيس الحكومة الإسرائيلية نتانياهو ركز في خطابه أمام الجمعية العامة على تخويف العالم من الخطر الإيراني. وقال أن هذا الخطر يهدد بلاده عبر «حزب الله» في لبنان و «الحرس الثوري» في سورية.
وادعى في كلمته أيضاً أن قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني جاء حصيلة مشاورات ساهمت إسرائيل فيها قبل سنة تقريباً. يومذاك، اطّلع الرئيس الأميركي على جزء من الأرشيف النووي الإيراني الذي حصلت عليه استخبارات «موساد» بواسطة عملائها في طهران!
صحيفة «هارتس» علقت على ادعاءات نتانياهو بأن المعلومات الاستخبارية التي قدمها إلى ترامب عن استعدادات إيران لصنع قنبلة نووية… كلها مزيفة ومزورة. وقالت أيضاً أن الولايات المتحدة سقطت في الفخ الذي نصبته لها إسرائيل. ذلك أنها تستخدم هذا الأسلوب بهدف تغطية الكذبة الكبرى التي ترى في نفسها «الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.» علماً أنها تخفي عن الرأي العام صورتها العنصرية التي تسمح لها بحكم أربعة ملايين فلسطيني بعيداً من مبدأ المساواة وكل ما يتبجح به قادة «دولة اليهود».
الكل في إسرائيل يتذكر المديح الذي كاله ترامب لصهره جاريد كوشنر خلال السنة الأولى من ولايته. قال أنه سيلعب دوراً رائداً نيابة عنه، وأنه سيعهد إليه مهمة التوسط لاجتراح اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. كل هذا سيتم عقب الفشل الذي مني به ممثلو الحزبين الجمهوري والديموقراطي. لهذا، أصبح التوصل إلى اتفاق سلام في الشرق الأوسط هدفاً أساسياً للسياسة الخارجية الأميركية.
وكان من الطبيعي أن يلقى هذا التسويق الاستثنائي من الرئيس ترامب الكثير من الاعتراض والتشكيك. والسبب أن كوشنر لا يملك الخبرة السياسية المطلوبة لهذا الدور الرفيع. وأقصى ما حققه أثناء الحملة الانتخابية هو القيام بتنظيم مواعيد اللقاءات بين ترامب وقادة الحزب الجمهوري.
ويبدو أن مؤهلاته ظهرت في قطاع آخر فهو علاوة على أنه صهر الرئيس وزوج ابنته المفضلة إيفانكا، فقد أثبت أنه يستحق الشهرة التي نالها في تجارة العقارات، تماماً مثل والده وأكثر.
ويُستدَل من سجله الجامعي أن جاريد تخرج في جامعة هارفرد، قبل أن يلتحق بجامعة نيويورك للحصول على شهادة الدكتوراه في القانون وإدارة الأعمال. وعلى العكس من ترامب الذي يكره الإعلاميين، فإن صهره يؤمن بالدور المؤثر الذي تلعبه الصحافة في صنع الرأي العام. لذلك، باشر اهتمامه بهذا القطاع في سن مبكرة عندما اشترى جريدة «نيويورك أوبزرفر» بعشرة ملايين دولار.
لكن هذه الهواية لم تقف عائقاً في طريق استثماراته الواسعة في مجال العقارات. ولقد غامر وهو في السادسة والعشرين من العمر بشراء أغلى عمارة في مدينة نيويورك، إضافة إلى حصوله على حصة الغالبية في «مبنى تايم سكوير» الشهير.
أما على المستوى العقائدي فهو يهودي أرثوذكسي متدين ومتعصب. وتزوج إيفانكا التي اعتنقت اليهودية، وشاركت في معظم المؤتمرات المتعلقة بمصلحة والدها، سواء قبل فوزه بالرئاسة أم بعد ذلك. والثابت أنها ساهمت في اختيار حاكم ولاية إنديانا مايك بنس لمنصب نائب الرئيس. ويجمع المراقبون على الاعتراف بأن هذا الخيار ساعد في فوز ترامب بالرئاسة، لأن بنس يعتبر من أهم قادة حركة المسيحية – الصهيونية التي أعطت المرشح الجمهوري عشرين في المئة من أصوات المقترعين. وعندما أعلن ترامب قرار الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، حرص على أن يكون الإعلان في حضور نائبه بنس كدليل على أهمية الدور الذي لعبه في هذا السياق.
وعلى هذا القرار الصادم علق نتانياهو: «إن ترامب صديق حقيقي يتقدم على جميع الرؤساء الذين تعاطوا مع هذا الموضوع الشائك. ذلك أنه أعطى إسرائيل أكثر مما طلبت».
وكان وضع القدس ومستقبلها الإداري مشكلتين يصعب على كل المفاوضين حلهما. لذلك، طلب الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر أوسلو ضرورة تأجيل البحث في موضوع القدس إلى المرحلة الأخيرة من الاتفاق.
بعد حرب 1967، احتلت إسرائيل القدس، ثم أعلنها الكنيست عام 1980، مدينة موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل. وتظاهر الفلسطينيون حينذاك، مطالبين بإلغاء هذا القرار لأنهم يريدون استرجاع القدس الشرقية باعتبارها ستصبح عاصمة دولة فلسطين.
وأحالت الحكومة الإسرائيلية هذا الموضوع إلى شيمون بيريز الذي أفتى بالآتي: «أعتقد أن القدس يجب أن تكون مدينة مفتوحة ومنزوعة السلاح، موحدة سياسياً لكنها منقسمة دينياً. وليأخذ كل دين من الأديان المعنية مسؤولية الأماكن المقدسة الخاصة به».
لكن ترامب لم يأخذ بوجهة نظر بيريز، ولا بوجهة نظر أوسلو، وإنما تبنى إعلان الكنيست عام 1980، أي ضم القدس الموحدة إلى إسرائيل.
خلال تلك المرحلة – أي قبل توقيع اتفاق وادي عربة مع الأردن، أسس أرييل شارون حركة سياسية شعارها «الأردن هو فلسطين». واستند في حججه إلى أن ما نسبته 65 في المئة من عدد سكان الأردن هم من أصول فلسطينية. ولما قوبل اقتراحه برفض الأردن، هاجم شارون الحكومة الإسرائيلية التي ساعدت عمّان على كسب المعركة ضد أبو عمار عام 1970.
ولكن، هل ماتت تلك الحركة بوفاة شارون؟
صهر الرئيس جاريد كوشنر وجد الجواب في «صفقة القرن» التي صاغها مع خبراء إسرائيليين عدة، وقدمها إلى الرئيس ترامب الذي وعد أثناء اجتماع الجمعية العامة بكشف خطته للسلام الفلسطيني – الإسرائيلي في كانون الثاني (يناير) المقبل.
ذكرت الصحف قبل شهر تقريباً أن كوشنر عرض على الأردن مقترحاً خلاصته أن يقبل بتسلم المخصصات التي تمنحها واشنطن سنوياً لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل نحو 380 ألف لاجئ فلسطيني. والغاية من كل هذا تصفية «الأونروا» والقضاء على حق العودة. وهو بند أساسي من بنود قانون وكالة الإغاثة. لهذا، تطالب الإدارة الأميركية بضرورة فصله عن البنود الملزمة في مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في كل العالم. بمعنى آخر، إن وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين أسستها الجمعية العامة عام 1949، أي بعد حرب 1948 ولجوء آلاف المهجرين إلى الأردن ولبنان وسورية. بينما ظلت مهمة مفوضية الأمم المتحدة للاجئين محصورة بالاهتمام بكل لاجئي العالم. وبما أن وظيفة «الأونروا» مقتصرة على تأمين الإغاثة للاجئين الفلسطينيين إلى حين حصولهم على حق العودة، يسعى ترامب – ومن خلفه إسرائيل – إلى تصفية وكالة الإغاثة بغرض القضاء على حق العودة. ومن المؤكد أن الأردن تنبه إلى هذه «القطبة المخفية» لذلك رفض تبني هذا المشروع المريب.
بقي السؤال الملح: هل ينجح ترامب في تصفية القضية الفلسطينية خلال ولايته الثانية؟
الجواب كان لدى أبو عمار وهو يغادر ملجأه في الفاكهاني ببيروت، أثناء الغزو الاسرائيلي عام 1982. فقد سئل وهو يصعد إلى الباخرة التي أقلته إلى اليونان: هل أنت واثق من العودة إلى فلسطين؟ فأجاب على ذلك برسم إشارة النصر، وقال مَن يعتقد بأن مصير الفلسطينيين سيكون مثل مصير الهنود الحمر في أميركا فهو واهم!
ويبدو أن الرئيس ترامب يحاول تقليد الرئيس اندرو جاكسون من طريق تصفية القضية الفلسطينية!
سليم نصار
الحياة