بعد عام على إعلان التحالف الدولي طرد تنظيم “داعش” من مدينة الرقة السورية، وسيطرة “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) عليها، ما زال الخراب والدمار والمقابر الجماعية تذكّر بما حلّ بالمدينة. كانت المعارك قد انتهت في السابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2017، ليعلن التحالف الدولي في العشرين من الشهر نفسه تحريرالمدينة من التنظيم.
أولئك الذين عادوا إلى الرقّة يعيشون معاناة يومية في ظلّ الدمار الكبير، عدا عن مخلّفات الحرب من قنابل وألغام ما يؤدي إلى سقوط ضحايا من حين إلى آخر. ودفع العوز والفقر وغياب المنظّمات الإنسانية عن الرقة عائلات كثيرة إلى العمل في جمع الخردة لكسب لقمة العيش، على غرار ما تفعل أم حسين (42 عاماً) مع بناتها. منذ ساعات الصباح الأولى، تبدأ في جمع النحاس والحديد والعبوات البلاستيكية الفارغة التي تجدها بين أنقاض المباني المدمّرة، غير مبالية بالألغام التي قد تتسبب بموتها أو موت إحدى بناتها، لتجمع حصيلة ما تجنيه وتبيعه آخر النهار إلى تجار يدفعون لها مبالغ مالية قليلة جداً. وعلى الرغم من التعب، فلا تجني أكثر من دولارين في اليوم.
عن المعاناة اليومية، تقول أم حسين لـ “العربي الجديد”: “أخرج عند الساعة السابعة صباحاً برفقة بناتي، نجمع فوارغ الرصاص النحاسية والمواد البلاستيكية وما نجده أمامنا صالحاً للبيع لتجار الخردة. نبقى على هذا الحال حتى مغيب الشمس، ثم يأتي التاجر لفحص ما حصلنا عليه طوال النهار. وحين يدفع لي مبلغاً من المال يكفيني لإطعام بناتي وتأمين احتياجاتهن اليومية، أشكره وأحمد الله على ما أنا فيه”. تضيف أم حسين: “نسمع عن منظمات إنسانية أو مساعدات للناس، لكننا لا نراها أبداً. لم يساعدنا أحد أو يمد لنا يد العون مطلقاً. بناتي لا يذهبن إلى المدرسة إذ ليس لدي قدرة على تأمين مصاريف الدراسة لهن. من أين أؤمن لهن تلك المصاريف؟ جمع الخردة أصبح عملي وأتمنى أن أرى بناتي يدرسن، لكن ذلك مستحيل في الرقة. أتمنى خروجهن من هذه المدينة الموحشة إلى بلد قد يؤمن لهن حياة أفضل”.
وتشير أم حسين إلى أن الكثير من الأطفال الذين يجمعون الخردة تعرّضوا لإصابات ما أدى إلى بتر اليد أو القدم. هؤلاء اعتقدوا أن القذائف غير المتفجرة هي بقايا قطع نحاسية قد تعود لهم بمبالغ جيدة. لذلك، تتوخى الحذر أثناء العمل. تقول: “صحيح أننا لم نصب بمكروه حتى الآن، لكن لا أحد يعرف ما يخبئه المستقبل لنا. ربما أكون ضحية. لم أعد أفكر بالأمر لأنه لا فرق بين الحياة والموت هنا”.
محمود البكر (39 عاماً) رب أسرة يعمل على ترميم منزله ويحاول الانتهاء منه قبل حلول فصل الشتاء. يقول لـ “العربي الجديد”: “البيت متصدع وبعض الجدران قد دمرت بالكامل. لكن من الجيد أن السقف ما زال سليماً، وسأكتفي بملء الشقوق فيه بالإسمنت كي لا يتسرب المطر. وقد بنيت قسماً من الجدران وبقي لي قسم آخر. في الوقت الحالي، يمكن العيش في المنزل”. ويردف البكر: “الكثير من المنازل هنا سويت بالأرض. لا أحد يمد يد العون لمساعدة من يريد ترميم بيته. كما أن أسعار مواد البناء مرتفعة جداً، ما يجعل الصيانة أمراً صعباً. كنّا نعيش أياماً سوداء خلال فترة حكم تنظيم داعش للمدينة. الموت يحدث يومياً على أيدي جلادين من التنظيم، خصوصاً على دوار الدلة الذي كنا نسميه دوار الموت لأن الإعدامات كانت تنفذ هناك. أما اليوم، فقد غاب هذا السواد لكننا نعيش وسط الخراب والدمار”.
من جهته، يقول أبو أحمد (42 عاماً)، الذي كان يعمل قبل الثورة في جمعية البر والخدمات الاجتماعية في الرقة، إن “قسد لم تمنح الأهالي شيئاً في مجال الخدمات كما كانوا يأملون”. يضيف: “توقع الأهالي الذين يقدر عددهم بنحو عشرة آلاف في الوقت الحالي، إصلاح الواقع المأساوي وإيصال مياه الشرب إلى المنازل. ظنّوا أن الرعب الذي كانوا يعيشونه سيزول. صحيح أنهم حصلوا على حريتهم، لكن قسد تمارس بحقهم الاعتقال وتلاحقهم تحت كثير من الحجج والذرائع”.
أما فتحي محمد (55 عاماً)، فيقول لـ “العربي الجديد” إن “جرح الرقة عميق. الكثير ممن كانوا معتقلين في سجون تنظيم داعش اختفوا ولا يعرف إن دفنوا في المقابر الجماعية في المدينة، أم إذا اقتادهم التنظيم إلى مناطق أخرى قبل خروجه منها”. يضيف أنه بعد عام كامل على زوال قبضة التنظيم عن المدينة، “ما زلنا نعيش المأساة في ظل حكم قسد للمدينة، حيث يلف الفساد مجلس المدينة التابع لها. وكلّ الأموال التي تأتيهم تصرف في إطار مشاريع خدماتية أو مرافق عامة، لكننا لا نشهد تغيراً ملحوظاً أو شيئاً ملموساً في الحقيقة، باستثناء صيانة شبكات المياه التي تسببت بكارثة منذ مدة، وأدت إلى تسمّم المئات بسبب اختلاط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي. اليوم، نأمل أن يتحسن واقعنا داخل المدينة لأننا نريد البقاء فيها. كل من أتاها بالقوة زال وبقيت الرقة وأهلها”.
عبدالله البشير
العربي الجديد