يصفه البعض بـ”ذاكرة بغداد الحية” لأنه كان حاضرا في معظم الأحداث التي مر بها العراق منذ بدايات القرن العشرين، وعلى جانبيه تشخص بقايا بنايات عفا عليها الزمن، لكنها كانت يوما ما مقرات حكومية وتجارية وصناعية، وتتفرع منه أزقة صغيرة تأخذك إلى محلات “حارات” بغداد القديمة، حيث كان يقيم علية القوم ونخبتهم وأعيانهم في القرون السابقة.
إنه شارع الرشيد وسط العاصمة العراقية الذي يعد أقدم شوارعها، وتم افتتاحه وتعبيده عام 1910 في عهد الوالي العثماني خليل باشا قبيل الحرب العالمية الأولى، في خطوة تعتبر اليوم بعض أهم ما تركه العثمانيون من أثر خلال قرون حكمهم الأربعة للعراق.
لكن الشارع اليوم بات يثير رثاء البعض بسبب ما وصل إليه حاله، فالبنايات القديمة التي يفترض أن ترمم أصبح الكثير منها آيلا للسقوط تنخره عوامل السنين، وأكوام النفايات تتوزع في جنباته، ويعيش فوضى لا مثيل لها متمثلة بانتشار الباعة المتجولين الذين يشغلون أرصفته ويملؤونه بعرباتهم الجوالة التي تعرقل حركة السيارات فيه.
ويرى الزائر اليوم بقايا محلات تشير إلى أسماء غادر معظم أصحابها الشارع والعراق أيضا، بعضها يخص شركات للاستيراد أو بيع بضائع مختلفة، وبعضها فنادق بحلة تراثية بغدادية على طراز يعرف بـ”الشناشيل”، مصنوعة من خشب بات يتآكل وتضيع معالمه يوما بعد آخر، بل وربما يسقط يوما ما على الشارع ومن فيه.
ويشتكي الباعة من إغلاق الشارع كل جمعة، إضافة إلى قطعه المتكرر دون أسباب واضحة، مما يؤثر على عملهم سلبا، فضلا عن تراكم الأوساخ في جنباته.
ويضم الشارع بعض المحلات القديمة التي ذاع صيتها في العراق وخارجه أحيانا، مثل حافظ القاضي وعصير الحاج زبالة وآخرين.
محاولات الترميم
ورغم أن أمانة بغداد -وهي الجهة المسؤولة عن الشارع- أعلنت مرارا عن انطلاق حملات لإعادة تأهيله وترميم مبانيه فإن الوضع يزداد تدهورا كل عام.
ويؤكد المتحدث باسم الأمانة حكيم عبد الزهرة أن مشاكل عدة أعاقتهم عن إكمال ما بدؤوا فيه، من بينها أن الشارع مقطوع من النصف ببعض البنايات الحكومية.
ووفقا لعبد الزهرة، فإن 80% من بنايات الشارع تعود ملكيتها إلى مواطنين وليست للدولة فلا بد من الاتفاق معهم، كما أن الأمانة تخطط لتسليم مشاريع التأهيل إلى شركات متخصصة وذات خبرة “في وقت لا تمنح الحكومة أي موافقات لهدم وإعادة بناء المباني التراثية”.
وقد تشكلت منذ فترة لجنة خاصة في رئاسة الوزراء بالتعاون مع أمانة بغداد وعدد من الهيئات المختصة تتولى النظر في طلبات منح إجازات لترميم وبناء واستثمار العقارات التراثية الواقعة في الشارع وبعض الأزقة المتفرعة منه.
ويضيف المتحدث للجزيرة نت أن هذه اللجنة هي التي ستنظر في الطلبات المقدمة لضمان المحافظة على واجهات البنايات وتأهيلها وإعادتها إلى الخريطة القديمة، وهي لا تمانع في الاستثمار بشرط موافقة الجهات المتخصصة.
وبشأن المشاريع التي أعلن عنها سابقا يشير عبد الزهرة إلى أنهم استطاعوا ترميم 30% من بنايات الشارع وملحقاته، والباقي يجري العمل على إنجازه جزئيا، على حد قوله.
وتنفي أمانة بغداد إمكانية تحديد مدة معينة لاكتمال ترميم الشارع بسبب وجود عقبات عدة، من بينها “صعوبة الحصول على الموافقات والتراخيص المطلوبة”.
“كنز تراثي”
وترتبط بالشارع أزقة ومحلات كانت تمثل قلب بغداد في القرون السابقة، وتحوي مقرات حكومية ومدارس وخانات قديمة لعل من أبرز ما بقي منها اليوم مبنى القشلة الذي كان مقرا لحكام بغداد والمدرسة الرشدية العسكرية وخان المدلل.
ويقول الباحث التراثي عبد الرزاق البغدادي إن الشارع كان يمثل شريان الحياة في بغداد خلال العقود السابقة، ومقصدا للكثير من العراقيين للتبضع والتسوق، كما أنه كان وجهة للسياح الأجانب قبل أن تعصف الحروب والأزمات بالبلاد.
ويضم الشارع بعضا من أقدم جوامع بغداد مثل الحيدر خانة والمرادية والأحمدية والأزبك، ويعود تاريخ إنشائها إلى القرون الأربعة السابقة، لكن بعضها -كالحيدر خانة- يعاني من تخلخل بعض أركانه وتداعيها على الرغم من محاولات الترميم التي لم تنته منذ سنوات.
أما المقاهي فأشهرها حسن عجمي والزهاوي وأم كلثوم، وافتتح معظمها في بدايات القرن العشرين، وكان ملتقى للأدباء والفنانين والشخصيات العامة، كما يضم الشارع عددا كبير من المكتبات، ويتفرع منه الشارع الثقافي الشهير بـ”المتنبي”.
ويشير البغدادي إلى أن الشارع والمناطق المرتبطة به كالميدان والعاقولية وجديد حسن باشا والدنكجية وغيرها اشتهرت بوجود عدد من قصور رجالات الدولة في الماضي إلا أن هجرة أصحابها وإهمالها أديا إلى تحول العديد منها لخرائب أو معامل صغيرة.
ويطالب الباحث الحكومة بإعادة إحياء الشارع وجعله وجهة سياحية مرة أخرى، متأسفا على الحال الذي وصل إليه اليوم في وقت تهتم فيه البلدان المتقدمة بالحفاظ على تراثها وحمايته كجزء من تاريخها الحي، واصفا الشارع بـ”الكنز التراثي”.
المصدر : الجزيرة