الحراك السياسي يسجل تراجعا في مصر

الحراك السياسي يسجل تراجعا في مصر

 أدى غياب الممارسة السياسية والحزبية الحقيقية في مصر إلى منح مساحة لتصاعد المبارزات الدينية بين أطراف وقوى مجتمعية عديدة، وصلت إلى حد تنظيم تظاهرة، الجمعة، شارك فيها الآلاف من المواطنين في محافظة الأقصر (جنوب مصر)، ضد ما وصفوه بـ”الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الأزهر”، في أعقاب نقاش خلال احتفالية المولد النبوي بشأن جوهر تجديد الخطاب الديني.

انطلقت التظاهرة، بعد صلاة الجمعة، من مسقط رأس شيخ الأزهر، أحمد الطيب، وطالبت الحكومة بالوقوف أمام معارضي المؤسسة الدينية، وجاءت بدعوة ممّا يسمى بـ”ائتلاف دعم الأزهر”، و”قبائل الصعيد”، المعروفة بقربها منه، ما يشي بأن هناك تعمدا في ترويج الانشغال بالقضايا الدينية ولفت الأنظار بعيدا عن قضايا سياسية واقتصادية حيوية. واختفت التظاهرات من شوارع مصر منذ صدور قانون حظرها ووضع ضوابط لها قبل أربع سنوات، وقيود صارمة على من يريدون الحصول على ترخيص لتسيير تظاهرة في الشارع.

جاءت التظاهرة المؤيدة لشيخ الأزهر ردا على حملات إعلامية استهدفته مؤخرا، وألقت اللوم على المؤسسة الدينية بفشلها في ملف تجديد الخطاب الديني.

ويذهب متابعون للتأكيد على أن غياب الحراك السياسي ينعكس على تعامل الحكومة المصرية مع قضايا الإصلاح الديني بوجه عام، ويرى هؤلاء أن رغبة الإصلاح الديني العلنية التي تظهر في الخطابات الرسمية موجهة بالأساس إلى الخارج للإيحاء بأن الحكومة جادة في مكافحة التطرف، من دون أن تحمي أصحاب الآراء المستنيرة في الداخل.

وتدعم طريقة طرح الأفكار الدينية تصاعد الجدل المجتمعي بشأنها، وتفتح المجال لجملة من الموضوعات تمثل صدمة للمتلقين في مناطق متفرقة نشأت على عادات وموروثات دينية ثابتة ترفض التغيير، ويقابلها رأي مخالف لها بشكل كلي، في ظل غياب تام للآراء الوسطية التي تدعم حجج كل فكرة، بما يؤدي في النهاية إلى تمسك كل شخص بوجهة نظره.

وما حدث مطلع الشهر الجاري بين الكاتبة الصحافية فريدة الشوباشي، وأحد أساتذة الاقتصاد بجامعة الأزهر يمثل دليلا قويا، بعد أن اشتد الجدل بينهما بشأن النقاب، خلال لقاء تلفزيوني على فضائية “صدى البلد”، وراج مقطع فيديو للطرفين يتبادلان فيه الاتهامات بشأن أحقية كل منهما في الحديث عن الدين.

ويبدو أن الحكومة تجد ضالتها في إغراق المواطنين في قضايا دينية، لتعويض غياب الحراك السياسي، وغض الطرف عن الأزمات الاقتصادية، وحزمة الإجراءات المالية التي فاقمت معاناة المواطن.

وقال كمال حبيب، الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، إن تجفيف منابع السياسة يصب مباشرة لصالح الاهتمام بالقضايا الدينية باعتبارها الأكثر جدلا في المجتمعات العربية، بما تحتويه على تفريعات من الممكن أن تكون مادة ثرية للجدل، مع غياب أدوار الهيئات الدينية كفاعل قوي في المجتمع، وهو ما يترك مساحات واسعة من الفراغ الفكري بشأن القضايا التي تطرح على المواطنين بشكل يومي.

وأضاف في تصريحات لـ”العرب”، أن الحكومة المصرية تدعم بشكل أساسي هذا الاتجاه، وهو ما يدحض الكلام عن تجديد الخطاب الديني وبناء دولة مدنية تقوم على الأدوار الفاعلة لمكوناتها وعلى رأسها الأحزاب السياسية النشطة”.

تجد دوائر حكومية في إثارة الجدل بشأن القضايا الدينية مخرجا للعديد من الأزمات الاقتصادية والسياسية، مع غلق المجال العام وتضييق الخناق على حرية الرأي

وتوقع حبيب أن يزيد الجدل الديني في مصر الفترة المقبلة، في ظل تنامي التركيز الإعلامي على الفتاوى التي تبرز آراء فقهية، غريبة على المجتمع، وتركيز الاهتمام على الفتاوى المرتبطة بالمرأة وجسدها، وعدم إفساح المجال أمام الآراء الوسطية المجددة لتسهيل وصول فلسفة التجديد إلى المواطنين بدلا من الحالة الصدامية المنتشرة حاليا.

وكانت حالة الجمود الفكري واستمرار الاستقطاب الديني سببا في انشغال الرأي العام المصري بقضايا لا تمثل أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية المتردية، على رأسها قضية حظر النقاب في الأماكن العامة، والتي شغلت حيزا كبيرا من الشد والجذب أدى إلى دفع نائبة في البرلمان لتقديم مقترح بشأن حظر النقاب مؤخرا، ووقع سحبه قبل مناقشته رسميا، الأمر ذاته يتكرر مع مشروع قانون إلغاء خانة الديانة من الأوراق الرسمية، بعد أن أعلن رئيس اللجنة الدينية في البرلمان رفض مناقشته.

ويشدد معارضون على أن إعلان النواب القريبين من دوائر حكومية لمناقشة مثل هذه القوانين والتراجع عنها ورفض مناقشتها بحجة الممانعة الشعبية لها، تهدف إلى تحقيق شعبية زائفة لبعض الأعضاء لدى المواطنين الذين ينظرون إليهم كأنهم حماة للدين، ما يعوض تقصيرهم السياسي في الأدوار الرقابية، وسط غياب البرلمان عن محاسبة الحكومة سياسيا.

وتجد دوائر حكومية عدة في إثارة الجدل بشأن القضايا الدينية والانصياع لرغبة المواطنين التي تتأثر بضعف مستوى التعليم وانتشار الأفكار المتطرفة، مخرجا للعديد من الأزمات الاقتصادية والسياسية، مع غلق المجال العام وتضييق الخناق على حرية الرأي، وتحولت إلى متنفس بديل تسمح به عبر وسائل الإعلام وتؤيد انتشاره على مواقع التواصل الاجتماعي التي دائما تشتعل على صفحاتها نقاشات دينية سطحية.

وأكد مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن الحكومة تلعب على وتر الأفكار المحافظة بالنسبة للغالبية من المصريين، وتسعى لاتخاذ خطوات تدعم رضاهم عنها، وتوضح ذلك من خلال إغلاق ملف حظر النقاب في الأماكن العامة، وعدم الذهاب باتجاه إقرار قوانين الأزهر الإصلاحية.

وأوضح لـ”العرب” أن مكانة الشريعة في المجتمع تأخذ جدلا متصاعدا في المجتمعات المغلقة، غير أن الجدل الحالي بشأن الأزهر وأدواره يعبر عن رغبة حكومية في السيطرة على جميع مراكز القوى في الداخل”.