في الذكرى الأربعين لما تم الاصطلاح عليه “الثورة الإسلامية”، أو “الثورة الإيرانية”، تتزاحم الأفكار والذكريات، ولكن ما يشكل قطب الرحى في ذلك المفصل التاريخي هو رأس ذلك الحدث، الخميني، وما حدث له ومعه قبل عام من نزوله عن سلّم الطائرة الفرنسية في مطار طهران.
التقط الخميني، في العام 1978، في منفاه في مدينة نوفيل لوشاتو الفرنسية، الإشارات الأميركية التي أرسلها مستشار الأمن القومي الأميركي آنذاك، زبغنيو بريجنسكي، والتي كانت تومئ إلى البحث عن وكيل لمحاربة الشيوعية، المتمثلة بالاتحاد السوفييتي السابق؛ وقد وجد الخميني هذه الإشارات هدية من السماء لإقناع الغرب بأنه المنشود، وأنه خير من يقوم بمهمة محاربة الملاحدة السوفييت الكفرة، وأنه سيحقق توزيعاً عادلاً لثروة إيران على أبناء شعبها، وأنه لا ينوي تصدير ثورته إلى خارج الإقليم الفارسي، بل سيقيم علاقات أخوية مع الشقيقات العربيات المسلمات على ضفة الخليج المقابلة؛ والأهم أنه لن يقطع النفط عن الغرب؛ ولكن ذلك يتطلب التخلص من عسف “السافاك” (المخابرات) وعرش الشاه.
انطلت حيلة “التقية” الإيرانية على الولايات المتحدة التي لم تجد غضاضة، كعادتها، بالغدر بأصدقائها؛ فتخلت عن صديقها العزيز شاه إيران، المُجَرّب وفاؤه بحماية إسرائيل، وقيامه بدور شرطي الخليج، وحامي صنابير النفط. ولكن بعد فترة وجيزة من وصول الخميني إلى طهران، ما لبث أن تبدّد حلم الغرب، بعدما تمكّن القادم الجديد من تحقيق مراده، حيث تحولت أجنحته
“المكافأة الأكبر التي قدّمتها ثورة الخميني لأميركا وإسرائيل أنها فتحت حرباً لثماني سنوات ضد جارتها العراق” الناعمة إلى أظلاف؛ ونزع قناع “التقية” ليفصح عن مكنوناته الاستراتيجية؛ فتمثل رد جميله الأول لأميركا باحتجاز أعضاء السفارة الأميركية في طهران 444 يوما، وبإعلانه أميركا عدوا مبينا، واعتبارها “الشيطان الأكبر”؛ ليتبيّن لاحقاً أن كل ذلك الخطاب جزء من “التقية” المطلوبة لتنشيط “ثورية الثورة”.
كانت المكافأة الأكبر التي قدّمتها ثورة “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” لأميركا وربيبتها إسرائيل أنها فتحت حرباً لثماني سنوات ضد جارتها العراق، والتي لم تتوقف إلا بعدما أُجبِر الخميني على إيقافها كمن “يتجرّع السم”، حسب قوله المشهور. ولكن على الرغم من الهزيمة التي حلت بإيران وجيشها وارتدادات ذلك السلبية على المجتمع الإيراني، والمتمثلة بمئات آلاف الثكالى والأرامل، والبطالة والفقر، فإن الخميني وآيات الله بعده لم يقوموا بمراجعة للذات،
ودراسة مكامن الخطيئة في فلسفتهم التي ما زالت تجر المآسي على إيران، بل استمروا في غزواتهم الفكرية والدينية والعسكرية للبلدان العربية المجاورة إلى درجة أصبحنا نسمع تباهي الجنرالات الإيرانيين بأنهم أصبحوا يسيطرون على أربع عواصم عربية.
علامة أخرى في هذه “الثورة” العلاقة التي حرص الملالي على نسجها بين منظومتهم ونظام الأسد الذي تنبه مبكراً إلى ذلك المتغيّر الإقليمي الناجم عن وصول الخميني إلى الحكم بمساعدة غربية، حيث قام بتعديل بوصلته الماكرة، ليضع إحدى رجليه عند إيران تاركاً الرجل الأخرى عند العرب؛ فقد كان يزوّد إيران بالسلاح والإمدادات الحربية، وفي الآن نفسه، يتشاور مع السعودية لإيجاد طرق تعاون لدرء خطر أذى هذه الحرب عن المملكة ودول الخليج. ولكن حافظ الأسد لم يرهن رقبته للسكين الإيرانية، بل كان يتعامل بناء على مصلحته الشخصية، وبناء على معادلة تقوية العلاقة مع إيران إلى الحد الذي لا يغضب الغرب أو العرب على السواء، بل استخدام هذه للمساومة على إقامة علاقات أفضل مع هذه الدول، أي المتاجرة بالعلاقة مع إيران لتخويف هذه الدول، وبالتالي الحصول على مكتسباتٍ أكبر منها في إطار العلاقة البينية معها. ولعل كاتب هذا المقال شاهد عيان على طبيعة العلاقة بين نظام حافظ الأسد وإيران خلال عقد الثمانينيات، عندما كانت ما تسمى الثورة الإسلامية فتية في بداية عهدها، فقد كان حزب الله، صنيعتها، يحاول، بإيعاز إيراني، إعاقة بعض الصفقات التي كان يعقدها حافظ الأسد مع الدول الغربية في موضوع الرهائن الغربيين المحتجزين في لبنان؛ فيكون رد الأسد حاسماً مع إيران وحزب الله من خلال منعهم من تقويض تكتيكاته مع الغرب، وكأنه يقول لهم: “أنا الذي أبتز الآخرين، ولا أسمح لأحد أن يبتزّني”.
بعد وفاة حافظ الأسد، أصبح تعامل وريثه مع إيران مختلفاً كلياً، حيث وضع كل بيضه في السلة الإيرانية، إلى درجة أنه قد حَسِبَ أن إيران تستطيع أن تحميه من غضب شعبه. وفي بدايات الثورة السورية، كانت هناك أصوات عاقلة تدعوه إلى أن لا يستخدم القوة ضد المتظاهرين من أبناء شعبه العزّل، فكان جوابه: لدي ضوء أخضر من إيران لاستخدام القوة. .. والفصول التي تلت من التراجيديا السورية معروفة. هناك أصوات تنادي بالخروج الإيراني من سورية؛ ولكن من أجل وقف سرطان المنطقة، لا بد من خروج الملالي من إيران. تكفي أربعة عقود سود.
العربي الجديد