ترتبت عن الحرب الباردة عدة نتائج رئيسية. يُكتفى هنا بنتيجتين، لأنهما تخصّان استعصاء التعاون الإقليمي في الشرق الأوسط. أولهما رفع وصاية القوتين العظميين عن مختلف المناطق في العالم، وإنهاء توظيفهما لها في إطار حروبٍ بالنيابة، لاستحالة المواجهة المباشرة بسبب نظام تقاسم النفوذ المتفق عليه والرعب النووي. ثانيهما تحرير المبادرات الإقليمية التي ظلت رهينة حسابات التنافس بين القوتين العظميين وتجاذباته. استفادت مختلف مناطق العالم من هذا التحرّر المزدوج، بمستوياتٍ وبمعدلات مختلفة، إلا الشرق الأوسط وأفريقيا، ويجري التركيز هنا على الحالة الأولى.
كان الشرق الأوسط طوال الحرب البادرة، وتحديداً بدايةً من صفقة الأسلحة المصرية – التشيكية، والعدوان الثلاثي على مصر، مسرحاً ساخناً للحرب الباردة الكبرى، ولحرب بادرة عربية صغرى وحروب ساخنة (الحروب العربية – الإسرائيلية، التدخل المصري في اليمن، الحرب الأهلية اللبنانية وامتداداتها الإقليمية، الحرب العراقية – الإيرانية…). وسعي كل طرف إلى إقامة نظام إقليمي في الشرق الأوسط على مقاسه، يتوافق تماماً ومصالحه ومصالح حلفائه، بيد أن حالة الاستقطاب الشديدة والحروب بالنيابة والتدخلات والتحالفات القلقة وتفاعلات المنطقة الإقليمية التي لم تكن كلها مرهونةً بمتغيرات الحرب البادرة بين القوتين العظميين، حالت كلها دون إقامة نظام إقليمي في الشرق الأوسط، فالحيز الجغرافي بقي نفسه، لكن المشاريع الإقليمية كانت متعدّدة ومتنافسة، بل ومتعارضة. ولم يتمكّن أي طرفٍ من فرض تصوره الإقليمي. أوحت نهاية الحرب البادرة واختفاء الاتحاد السوفياتي، ثم إطلاق عملية أوسلو وما تلاها من مشاريع الشرق الأوسط “الجديد” بأن التصور الأميركي فرض نفسه. ولكن تجري الرياح الاستراتيجية الشرق أوسطية، بزوابعها الرملية المتكرّرة، بما لا تشتهي اليقينيات الإستراتيجية لأميركا وحلفائها في المنطقة، بل إن السياسة الأميركية نفسها هي من ساهم، وبشكل كبير، في إجهاض التفرّد الأميركي بالمنطقة. ربما درجة اليقين ونشوة الانتصار جعلتا أميركا وحلفاءها يقللون من شأن الاستقلالية الشرق أوسطية في إنتاج التوترات وإعادة إنتاجها. فضلاً عن هذه النزعة الاستقلالية الصراعية المتجذّرة في المنطقة، ساهمت الأخطاء الأميركية المتتالية في تشتت المشهد الإقليمي.
لم يستفد الشرق الأوسط من النتيجة الأولى لنهاية الحرب الباردة، فأميركا، ثم روسيا، بعد
استعادة عافيتها، استمرتا على المنوال ذاته بالإبقاء على زبائنها في المنطقة، وربما توسيع القائمة بإدراج دول جديدة. تخوف دول عديدة من أن تتخلى عنها أميركا بعد نهاية الحرب جعلها تتقرب أكثر فأكثر من الأخيرة في إطار علاقاتٍ تحالفيةٍ ليس لها مبرّرات إستراتيجية، فمنح أميركا مثلاً صفة الحليف خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو) لست دول عربية يفتقر لمبررات إستراتيجية، فضلاً عن انعدام مفعوله في حال صراع مع إسرائيل. هكذا حدّت أميركا، مستفيدة من هذه العقدة النفسية، من هامش الاستقلالية الذي كان من المفروض أن يتمتع به الشرق الأوسط، بل بقي تحت وصاية أميركية، لكنها غير محكمة، لعجزها عن الوقاية من الصراعات بين حلفائها أو تسويتها بمجرد اندلاعها، كما يتضح مع الأزمة الخليجية.
عموماً تستغل أميركا، بتواطؤ محلي، هذا المشهد لتجديد بعض آليات الحرب الباردة، كالتدخل المباشر أو عبر أطراف ثالثة والحروب بالنيابة. وفي هذا الإطار، ارتكبت خطيئة إستراتيجية بغزوها العراق واحتلاله، فقد غيرت مغامرتها هذه ملامح المنطقة، ووضعت، عكس ما كانت تتوقعه، حداً لمشروع إقامة نظام شرق أوسطي على المقاس، فهي ربحت مغامرتها في العراق عسكرياً، لكنها خسرتها سياسياً، لثلاثة أسباب على الأقل.
أولاً، وضعت العراق تحت النفوذ الإيراني مخلة تماماً بالتوازنات الطائفية، بينما تدّعي محاربة إيران، وما تسميه النفوذ الشيعي حتى في لبنان (حزب الله). ثانياً، حوّلت العراق أشلاء ممزقة مع تشكل إقليم كردي مستقل، ينحو إلى أن يصبح دولة داخل دولة. قد يكون هذا ضمن الأهداف الإستراتيجية لأميركا، لكن تحقيقها يعني وضع الوحدة الترابية لعديدين من حلفائها على المحك. ثالثاً، حولت العراق إلى ساحةٍ لترعرع الجماعات الإرهابية وتطورها، بمختلف أطيافها. والمفارقة هنا أن رقعة النشاط الإرهابي وحدّته أصبحت ملازمة لما تسميها أميركا “الحرب على الإرهاب”، فهذه “الحرب” أنتجت إرهاباً واسع النطاق لم تعهده المنطقة قط. وترتب عن هذا تنامي الفواعل اللادولتية التي أجبرت أميركا وغيرها على خوض حرب استنزافٍ غير متوازيةٍ يصعب حسمها.
كما لم يستفد الشرق الأوسط من نهاية الحرب الباردة، ليعيش تلك الدينامية الإقليمية التي
عرفتها بقية مناطق العالم، بل بقي حالة استثنائية في مجال التعاون الإقليمي، فهو كان ولا يزال منطقةً مفكّكة المفاصل، لم ينجح فيها أي مشروع إقليمي، حتى الذي تحمله القوة الأولى في العالم، والتي هيأت في واقع الأمر الظروف لإجهاض أي مشروعٍ في هذا الإطار. والحصيلة أن أميركا أصبحت عبئا على الشرق الأوسط، وهذا الأخير عبئا عليها، فلا هي نجحت في تطويعه تماماً ورسمه على الصورة التي تريدها، ولا هو تمكّن من تحويل استقلاليته الصراعية المحلية إلى نوعٍ من التحرّر الإستراتيجي. طبعاً تسعى أميركا اليوم إلى قلب المعادلة في المنطقة، بتشكيل محور بين إسرائيل وبعض حلفائها العرب، بدعوى مواجهة إيران، لكنها جرّبت ذلك في السابق، ولم تفلح، لأنها تواجه العقبة نفسها: الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. والواقع إن هذا التحالف “الجديد” محاولة لتدارك الأخطاء الإستراتيجية المرتكبة في الملف السوري، أين فرضت روسيا نفسها فاعلا رئيسا.
في ظل هذا المشهد الإقليمي المعقد، والمفكك المفاصل، يبدو الشرق الأوسط أبعد من أي وقت مضى من نظام إقليمي، مهما كانت ملامحه، وذلك بسبب الفشل الإستراتيجي لأميركا في عدة امتحانات عسيرة: تسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي؛ الإبقاء على شعرة معاوية بين حلفائها الخليجيين (الكتلة التي تبدو أنها الأكثر تماسكاً إقليمياً)؛ الإبقاء على التقارب، إن لم نقل التحالف بين حلفائها العرب وحليفها التركي؛ تحويل إنجازاتها العسكرية (غزو واحتلال العراق) إلى مكاسب سياسية؛ إيجاد صياغة إقليمية، بحدٍّ أدنى، تمنح حيزاً لمختلف الفواعل الإقليمية المتنافسة، بما فيها إيران، لتخفيف حدة التوتر في المنطقة، ولعكس دينامية التدخلات والحروب بالنيابة، فضلاً عن مساهمتها في تنامي الفواعل اللادولتية في المنطقة، لا سيما الإرهابية.
العربي الجديد