حين أقدم البوعزيزي على إشعال النار في نفسه، كان العالم العربي يبدو هادئا وتسير الحياة فيه بالرتابة المعتادة نفسها. وقتها تصور البعض أن هذا الهدوء يعكس أوضاعا سياسية واجتماعية مستقرة، رغم مظاهر الفساد والاستبداد البادية، وأن الجماهير العربية استسلمت لأقدارها، ولم تعد لديها القدرة على التحرك والانتفاض. وحين خيب الشعب التونسي ظن هؤلاء، بعد أن ثار ونجح في إجبار زين العابدين بن على على الهرب، تسابق العديد من المسؤولين في مختلف البلدان العربية لتريد عبارة: «نحن لسنا تونس»، وما هي إلا اسابيع قليلة حتى كانت جماهير غفيرة تنزل هادرة إلى الشوارع وتحتل الميادين في عواصم عربية عديدة رافعة شعارات «الخبز والحرية والكرامة الإنسانية»، ومطالبة بإسقاط نظم الفساد والاستبداد التي تتحكم في مصائرها.
حينئذ فقط أدرك الجميع أن الهدوء البادي فوق سطح الحياة السياسية والاجتماعية في عالمنا العربي لا يعكس دائما حقيقة ما يعتمل في داخلها، وأن البركان الهادئ انفجر وبدا يقذف حممه، ولم يتردد الإعلام الغربي في إطلاق مصطلح «الربيع العربي» على ما يجري في المنطقة، وتصور كثيرون أن صفحة من تاريخ العالم العربي طويت وبدأت صفحة جديدة توحي بأن هذا العالم على وشك الدخول في مرحلة تحول ديمقراطي طال انتظارها، غير أن الرياح لم تأت بما تشتهي سفن الثورات العربية التي بدأت تتعثر تدريجيا قبل أن تنتكس، مخلفة وراءها حالة من الفوضى والدمار لم يشهد لهما العالم العربي مثيلا من قبل. فباستثناء تونس، التي تمكنت سفينتها من الإبحار بصعوبة، عادت الأوضاع في معظم البلدان العربية الأخرى إلى أسوأ مما كانت عليه، وبدأ الربيع المنتظر يتحول إلى خريف حزين وأحيانا إلى شتاء قارس. ففي مصر عادت المؤسسة العسكرية لتحكم قبضتها على مفاصل السلطة، وراحت تهيمن على مختلف أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وفي ليبيا واليمن وسوريا راحت الصراعات بين القوى السياسية والاجتماعية المتنافسة تتحول إلى حروب أهلية طاحنة تودي بحياة الملايين، أو تحولهم إلى لاجئين أو تدفعهم إلى النزوح والهجرة. وراح البعض، في هذه الأجواء، يروج من جديد لمقولة إن الشعوب العربية ليست جاهزة أو ناضجة بما يكفي لإقامة دول مدنية حديثة، أو التأسيس لحياة ديمقراطية سليمة، وإنها في حاجة ماسة إلى قبضة أمنية قوية تعيد إليها الاستقرار، وتشعرها بالطمأنينة والأمان. وما أن رحل عام 2018 وأقبل عام 2019 حتى كانت الشعوب العربية تبدو وكأنها ترفع الراية البيضاء، وتستسلم من جديد لقوى الفساد والاستبداد، وتسلم بانتصار الثورة المضادة.
فجأة، وعلى غير توقع، انفجرت الأوضاع في السودان والجزائر، وراحت الجماهير تتدفق على الشوارع والميادين معلنة عن انطلاق موجة جديدة من ثورات «الربيع العربي». كانت مياه كثيرة قد جرت في العالم العربي بين 2011، حين اندلعت الموجة الأولى من ثورات «الربيع العربي»، و2019، حين اندلعت الموجة الراهنة من هذه الثورات، حيث طفت على السطح ظواهر جديدة لافتة للنظر، يمكن رصد أهمها على النحو التالي:
*انتقال دول الخليج العربي من وضع العزلة النسبية، والرغبة في النأي بالنفس بعيدا عن منطقة الزلازل والأزمات العربية، إلى حالة انخراط نشيط في القلب منها، واشتباك مباشر مع تفاعلاتها. فما أن اندلعت الموجة الأولى حتى اعتقدت دول مجلس التعاون الخليجي أن جرثومة الثورة يمكنها التغلغل فقط في البنية الهشة لنظم «الجمهوريات العربية»، وبالتالي فليس مطلوبا من العروش والممالك العربية، كي تتمكن من حماية وتحصين نفسها، سوى التكتل والعمل على تحقيق وحدتها وتماسكها، وهو ما يفسر اقتراح المملكة العربية السعودية، ضم كل من المغرب والأردن لعضوية مجلس التعاون الخليجي. وعندما بدأت الأوضاع داخل البحرين تهتز، هبت دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية وتدخلت عسكريا على الفور لقمع الثورة في مهدها. غير أن عمق التناقضات التي فجرتها الحالة الثورية في العالم العربي، دفعت دول مجلس التعاون الخليجي لاتخاذ مواقف تبدو متناسقة حينا ومتعارضة أحيانا أخرى، فالرغبة المشتركة في إسقاط نظام الأسد في سوريا، دفع البعض لتقديم الدعم للقوى التي حملت السلاح في وجهه، والرغبة في الانتقام من نظام القذافي دفعت بالبعض الآخر للمشاركة في عملية عسكرية قام بها حلف الناتو، وتجاوزت المهمة المكلف بها من جانب مجلس الأمن، بدعوى حماية الثورة الليبية. غير أن هذه المواقف الخليجية التي بدت منسقة ومتناغمة عكست في حقيقة الأمر دوافع شديدة التناقض، إذ سرعان ما تبين أن البعض يراهن على جماعات الإسلام السياسي المنخرطة بشدة في صفوف الثورات العربية، في الوقت الذي يرى فيه البعض الآخر أن تلك الجماعات تشكل مصدر تهديد مباشر لأمنها الوطني، ويراهن بالتالي على قوى الثورة المضادة. ولأن الحالة المصرية كانت كاشفة لعمق التناقضات القائمة بين هذه الدول، فقد أدت إزاحة جماعة الإخوان المسلمين، واستيلاء المؤسسة العسكرية في مصر على الحكم، إلى تدشين مرحلة جديدة في مسار الثورات العربية، أفضت في النهاية إلى انفجار مجلس التعاون الخليجي من داخله، خاصة عقب إقدام كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر، على فرض حصار شامل على قطر.
*انكشاف العالم العربي أمام مختلف القوى الإقليمية والدولية الطامحة في الهيمنة عليه، أو في اقتسام النفوذ فيه. انكفاء الدول العربية على أوضاعها الداخلية أتاح أمام هذه القوى فرصة جديدة للتغلغل أكثر في شؤونه. فقد شرعت إثيوبيا على الفور في بناء سد النهضة، بدون التشاور مع مصر، وقامت إسرائيل بإحكام الحصار على غزة، وتسريع عمليات بناء المستوطنات وتهويد القدس والتعدي على المسجد الأقصى، وأصبحت سوريا مسرحا لتدخل روسي وتركي إيراني إسرائيلي ومرتعا للجماعات الإرهابية الممولة دوليا وإقليميا، وراح النفوذ الإيراني يتغلغل بشدة داخل اليمن. وقد استغلت إسرائيل تصاعد الصراع بين إيران وبعض الدول العربية، لإحداث اختراقات جديدة وتطبيع العلاقات مع دول عربية خليجية تحت غطاء المصلحة المشتركة في مواجهة التهديد الإيراني. وهكذا راحت تتبلور محاور وتحالفات جديدة في المنطقة، فهناك محور مصري سعودي إماراتي، يعتمد أكثر على دعم كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، في موجهة محور قطري تركي إيراني يعتمد أكثر على كل من روسيا والصين، ولا تمانع الولايات المتحدة بالطبع من تعميق التناقضات بين دول مجلس التعاون الخليجي أملا في ابتزاز الجميع وإبرام صفقات السلاح.
*تزايد حدة الاستقطاب بين التيارات «العلمانية» وتيارات «الإسلام السياسي»، من ناحية، وتصاعد دور المؤسسة العسكرية في معادلة السياسة العربية، من ناحية أخرى. وفي ظل هذا الاستقطاب تبدو المؤسسة العسكرية وكأنها الضامن الوحيد للدولة الوطنية في العالم العربي، في مواجهة تيارات إسلامية عابرة للحدود، لا تؤمن بالدولة الوطنية، ومن ثم مؤهلة طبيعيا لإعادة الاستقرار بعد الفوضى التي تسببت فيها الثورات العربية.
لشعوب العربية مصرة ليس فقط على إسقاط رؤوس نظم الفساد والاستبداد، وإنما اقتلاع هذه النظم من جذورها
أما الموجة الثانية من ثورات «الربيع العربي» فقد أبرزت ظواهر جديدة أو أعادت التأكيد على حقائق متجددة، أهمها:
*أن الشعوب العربية لم تستسلم ومصرة ليس فقط على إسقاط رؤوس نظم الفساد والاستبداد، وإنما استئصال واقتلاع هذه النظم من جذورها.
*أن ثورات الربيع العربي واجهت انتكاسة لكنها لم تستسلم بعد، ولم تقر بانتصار الثورة المضادة، بل ستتواصل على شكل موجات، وهي تضرب اليوم في الجزائر والسودان، لكنها قد تكون غدا في البحرين أو في قلب منطقة الخليج.
*إنها استفادت من دروس الموجة الأولى، خصوصا ما جرى في مصر، وإن القوى السياسية المفجرة لحراك الثورة أصبحت أكثر وعيا ونضجا، وستسعى بكل الوسائل الممكنة للمحافظة على وحدتها وتماسكها، ولن تسارع بالتنافس في ما بينها لقطف الثمرات، إلى أن تتمكن من ترسيخ مقومات الدولة الوطنية الحديثة.
*إنها تدرك أهمية الدور الذي يمكن للمؤسسة العسكرية أن تقوم به لحماية ودعم الثورة والمساهمة في التأسيس لنظام ديمقراطي، حين تتصرف كمؤسسة وطنية، لكنها تدرك في الوقت نفسه خطورة الدور الذي يمكن ان تقوم به هذه المؤسسة، إن هي أسلمت قيادتها لعناصر تريد تسخيرها كأداة لطموحات شخصية.
لم تنتصر الثورة في السودان أو في الجزائر بعد، لكن إصرار قادة الحراك الشعبي على النهج السلمي، ووعي هؤلاء القادة بالمخاطر المحدقة، وحرصهم على عدم الوقوع في فخ المزايدات، يعيد إحياء الأمل من جديد في رؤية ضوء في نهاية نفق ما يزال معتما.
القدس العربي