وفيما يلي بيان وتفاعل مع العلاقة الجدلية لأسئلة التدبير وقضايا الهوية:
سؤال التدبير والكرامة الإنسانية
” كلما ملك الإنسان كرامته كلما ملك توازنه وتأجلت عنده المخاوف الغريزية كالخوف على الوجود والحياة والمستقبل والكرامة والحرية والولد ،كلما أمن فضاءه كلما استطاع أن يفكر بفطرة سليمة في اتجاه الاختيار الأكثر صوابية بما يليق بآدميته كإنسان مكلف.[1]
إن ضغط الواقع والهم المعيشي وإكراهات تأمين الإنسان من ضروريات الحياة، والعجز عن توفير مستلزمات البقاء واعتياص سبل العيش الكريم، كلها مداخل إلى الفقر القيمي، فأي خطاب أخلاقي يعيد الاعتبار لإنسان في هذه الوضعية إلا إذا كان يتغيا مجانفة الواقع والقفز عليه وممارسة التنويم والتخدير، ومن هنا ينطلق أولئك الدين يفسرون نشأة الحركة نشأة أيديولوجية واستغلال الوضع المأزوم، واستغفال الفئات الهشة. وهي أوضاع تفرخ التطرف بأبعاد و تمظهرات مختلفة، حيث إن قانون الاستخفاف يبقى مصدر قلق دائم وتخوف محتم من تحولات أو نقمة المستخف بهم، أو على العكس ضعفهم وقلة حيلتهم عندما يلقون في وجه الأعداء أو يطلب منهم الصمود في وقت الشدة والبلاء. إن أخطر ما في ظاهرة الاستخفاف بالإنسان، أنها تغتال عقله وفكره وبالتالي حياته المثلى التي يسعى إلى تحقيقها في دنياه ويحلم بها في جميع أمانيه، حينها ما الفائدة من العيش وقد ماتت تلك الآمال في النفوس؟ وما صور المنتحرين أو المدمنين أو المرضى النفسيين في مجتمعاتنا إلا انعكاس لاستخفاف الآخرين بهم وتحطيمهم تدريجيا وتحويلهم إلى تراب متحرك يتطاير مع كل رياح العولمة التي تهب على أوديتنا كل يوم.[2]
سؤال التدبير ومنطق المغالبة أو المشاركة
إن تعقد ضروب الحياة وتشابك العلاقات و استفحال الظواهر السلبية وتغول الفساد يحتم على الحركة الإسلامية الاشتغال بمنطق المشاركة مع مختلف الحساسيات والأطياف رغم اختلاف الطرح الأيديولوجي. لأن المشروع النهضوي لا يمكن أن يتحقق دون تعبئة كل طاقات المجتمع والإفادة من كل الكفاءات. والتركيز على المشترك الجامع، وتضخم الخطاب الأخلاقي يجهز على أي محاولة في هذا الصدد. ويدفع باتجاه تكريس الطرح الذي يفضي بإمكانية البديل المطلق.
هذا الطرح فرصة سانحة أمام الحركة الإسلامية للانفتاح على الكفاءات الوطنية المخلصة التي لا تشارك الحركة الإسلامية نفس المرجعية، ولكنها تتمتع بقدر عال من النزاهة والكفاءة، ولا شك أن هذا سيعوض الحركة الإسلامية مرحليا عن النقص في الكوادر، ذلك أن دروس التاريخ علمتنا أنه لا يخلو زمان من أناس أخيار يجعلون مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. فسؤال التدبير يستدعي إسناد المناصب حسب الكفاءات لا الولاءات، ذلك ما انتقده مصطفى حجازي في كتابه الإنسان المهدور من أشكال العصبية القبلية الجديدة.
”الإصلاح السياسي ليس تأكيدا للذات وإنكارا للآخر أو تشديدا على إرادة المعارضة وتنديدا بإرادة السلطة، كذلك فإن الإصلاح السياسي ليس مسابقة في حل المعادلات الرياضية، تتطلب اعتراف صاحب الحل الصحيح في نيل الجائزة، فالإصلاح السياسي عملية معقدة متشعبة تتداخل فيها المصالح وتتراكب حولها التصورات أو تتعالى فوقها الأصوات وتشد بأطرافها قوة سياسية أو اجتماعية متعددة من هنا يتطلب الإصلاح نفسا طويلا وخطة عمل مديدة وقبل هذا أو ذاك القدرة على تقديم حلول للمشكلات التي تواجه المجتمع مدعومة بدراسات منهجية.[3]
ينبه رفيق حبيب المصري ” إلى خطورة انجرار وضع ما بعد اللحظة الثورية إلى الثنائيات التصنيفية والإيديولوجيا المنغلقة، ونفي كل طرف للآخر في حمأة صراع دارويني على الدولة، مؤكدا أن خروج الناس في دول الربيع العربي، لم يكن على أساس ثقافي أو حضاري، ولم يكن على أساس الموقف من الهوية بل كان خروجهم تعبيرا عن موقفهم من طبيعة النظام الحاكم، وكان ثورة على الاستبداد والطغيان.[4]
وتعترض هذا الاختيار تحديات منها :ما يطرحه ناثان براون قائلا ” الايدولوجيا … يمكن أن تكون لزجة فهي تخلق الشكوك لدى المنافسين والأنصار على حد سواء كدليل على عدم الإخلاص والانتهازية”[5].
ويضيف” فقادة الحراك الذين يطلبون من أنصارهم أن ينتظموا ويساهموا ويتدفقوا على أقلام الاقتراع – غالبا مع بعض المخاطر الشخصية – قد يجدون أنفسهم عرضة إلى ضغط داخلي لإظهار منافع حقيقية لهؤلاء الأنصار. بينما المشاركة التي لا تجلب منافع مادية ولا تغيرات في السياسة العامة قد تثبط القواعد الشعبية، كما أنها تعرض الحركة إلى مخاطر في خضم التنافس على جذب الأنصار، فهي تعرض القادة الإسلاميين إلى الانتقادات بأنهم نسوا الدين لصالح السياسات.[6]
من هنا ضرورة اغتنام الفرصة لمراجعة وتصحيح البنية التصورية الثاوية لدى أبناء الحركة الإسلامية، حيث الانطلاق من تصور يكاد يصير معتقدا ومسلمة وهو أن ”العالم يعيش في حالة فراغ فكري وروحي وقيمي وحضاري، وأن الحركة الإسلامية جاءت لتملأ هذا الفراغ. كذلك تنتشر بين الإسلاميين مقولة مؤداها أن العالم يعيش فوضى فكرية وثقافية وأن الحركة الإسلامية مناط بها تصحيح هذه الفوضى الفكرية والثقافية ووضع الأمور في نصابها الصحيح.”[7]
ما من شأنه أن يرسخ عند أبناء الحركة الإسلامية ـ في لا وعيهم ـ أحقية ممارسة الوصاية على الناس تصنيفا وإدخالا وإخراجا من الدائرة، وإصدارا للأحكام الجاهزة، وهو منزع خطير مآله التكلس والتشرنق وإنتاج الطائفية وممارسات الفرقة الناجية.
ولكن ليستقيم النقد لا يمكن تعميم هذا الاتجاه وهو ما نتناوله في الفقرة الموالية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] محاضرة الدين والدولة، المقرئ الإدريسي أبو زيد، مراكش 2012
[2] سؤال التدبير رؤية مقاصدية في الإصلاح المدني مسفر بن علي القحطاني ص 197 ط 1 – 2013 الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
[3] الحرية والمواطنة لؤي صافي ص 195
[4] أسئلة دولة الربيع العربي سلمان بونعمان ص 127
[5] المشاركة لا المغالبة الحركات الإسلامية والسياسة في العالم العربي ناثان براون ترجمة سعد محيو نشر الشبكة العربية للأبحاث ص 159
[6] المرجع السابق ص 130
[7] عبد الله النفيسي ص.10
مصطفى الفاتيحي
موقع إسلام أون لاين