اتباع سياسات القوة وإخضاع العقل والأخلاق لها تقود إلى التواطؤ على الكذب. وهذا يلزمه أيضاً تشويه المفاهيم. ففي بلادنا، يمكن أن يُسمَّى غير المكترث بخرق حقوق الإنسان والمواطن، والصامت على الدوس على الحريات، ليبرالياً. وحتى الفاشي يمكن أن يحظى بهذه التسمية. ولهذا، يصبح في بلادنا تصحيح المفاهيم وتدقيقها جزءاً من الجهد للحفاظ على العقل السوي والموقف الأخلاقي.
تعود الليبرالية، كتيار أيديولوجي، إلى القرن التاسع عشر، أما جذورها الفلسفية فتعود إلى القرن السابع عشر. وبما أن هذه السطور ليست مدخلاً معجمياً للموضوع، يهمنا أن نؤكد أنها بدأت تأكيداً على الحرية حالة طبيعية معطاة تحميها الدولة، وتقيّدها بقدر ما تتعارض مع حريات الآخرين. ليست للدولة، بموجب الليبرالية، وظائف موجَبَة عينية، تتجاوز حماية الحريات بمعناها الواسع، وما يقوم عليها من حقوق (ويضيف بعض الليبراليين أن على الدولة، أيضاً، تأمين ما يلزم لممارسة الحريات والحقوق).
وقد اشتُقَّت منها الليبرالية الاقتصادية التي ترمي إلى تحديد وظائف الدولة في حماية الملكية الخاصة، وعملية التبادل الحر في اقتصاد السوق. ومنها اشتقت، أيضاً، الليبرالية السياسية التي اعتبرت وظيفة الدولة الرئيسية حماية الحريات للمواطنين، ومجال الفرد الخاص وخياراته الخاصة.
لم تكن الليبرالية دائماً مرتبطة بالديمقراطية. انصب اهتمامها على آليات حماية الحريات المدنية من سلطة الدولة، والذود عن المجال الخاص، ورفضت تحويل الرأي العام والذوق العام وغيرها إلى إملاءات تفرض على الفرد نمط حياة بعينه. ولذلك، لم تتحمس لتعميم حق الاقتراع على الناس بمتعلميهم وجهالهم، الذين قد لا يقيمون وزناً واعتباراً للحريات المدنية. وحتى منتصف القرن العشرين، لم يكن غالبية الليبراليين ديمقراطيةً، مثلما لم تكن غالبية الديمقراطيين مؤلفةً من ليبراليين. ولم تكن الطريق إلى اللقاء بينهما معبدة، بل كانت وعرة وشاقة، تخللتها صراعات وحروب، واحتاج الأمر إلى تبدّلات أيديولوجية عميقة لدى الطرفين، ولا سيما بعد انكشاف فظاعة ممارسة الأيديولوجيات التي ادّعت مصالح الأغلبية، من دون اعتبار لقيمة الحرية المترجمة في الحريات المدنية والحقوق السياسية.
بعدما أصبحت الديمقراطية عموماً ليبرالية، وتعمم حق الاقتراع، أصبح ليبراليون عديدون مدافعين عن قيم الليبرالية الأصلية في مواجهة مخاطر شمل الديمقراطية قطاعات شعبية واسعة لا تقدّر قيمة الحريات، أو معرّضة لتأثير ديماغوجيا السياسيين السلطويين؛ وكذلك في مواجهة الاحتمال الدائم لتواطؤ رأس المال الاحتكاري والسياسيين وأجهزة الأمن في تقييد الحريات وتدخل الدولة في مراقبة الناس، إذا لم توضع آليات قانونية تمنع حصول ذلك.
وفي المقابل، انسجم ليبراليون آخرون مع فكرة الحقوق الاجتماعية التي تتطلب تدخلاً أكبر من الدولة في الاقتصاد. وفي الولايات المتحدة، درجت تسمية اليساريين بالليبراليين، ما جعل الليبرالية مذمةً في عرف التيار المركزي في السياسة الأميركية. وهي تسمية خاطئة، لكنها ليست متناقضة، إذ لا يوجد تعارض بين الليبرالية السياسية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، برأي كاتب هذا المقال الذي يرى لقاء هذه العناصر أسمى ما يمكن أن يصبو إليه العمل المعاصر في السياسة.
لكن، نظرياً لا تصح ليبرالية من دون دفاع عن الحريات المدنية في وجه تقييد الدولة لها. وتاريخياً، لم يوجد ليبراليون لا يرون في حماية الحريات المدنية والفردية والحقوق السياسية وتقييد سلطة الدولة غايتهم ومبرر وجودهم.
في بلادنا التي تنوء بحكم أنظمة استبدادية منذ عقود، نشأت تقليعة عجيبة، تعتبر الليبرالية لقباً يمكن أن يطلق على شخص غير متحمس للحريات المدنية والحقوق السياسية، وحتى إذا كان مؤيداً لأنظمة سلطوية، ملكية أم جمهورية، أو داعماً لنظام حكم فاشي أو انقلاب عسكري، وذلك لمجرد أنه غير منتم لتيار سياسي ديني، أو لأنه يعيش نمط حياة معيناً.
ليست هذه التسمية دليلاً على فقر ثقافي وسياسي فقط، بل هي نوع من التواطؤ الموصوف أعلاه على الكذب. من الطبيعي أن يثور نقاش، بل صراع، بين الليبراليين والحركات الدينية السياسية، وأقصد من بينها تحديداً تلك التي تريد الوصول إلى الحكم، لاستخدامه في تقييد الحريات المدنية وفرض الإملاءات المتعلقة بنمط الحياة. وفي بعض الحالات، تفعل ذلك عن طريق تأليب الرأي العام، حتى قبل الوصول إلى الحكم. ولكن الليبراليين لا يتجاهلون دوس نظام الحكم يومياً على حريات المواطنين وحقوقهم، ويعارضون نظاماً لا يقيد نفسه بأي ضوابط في التعامل مع الناس بالاعتداء على أجسادهم وكرامتهم، وينتهك حرياتهم الفردية. فهذه مهمتهم الرئيسية. وهذا صراعهم الوجودي. لا وجود لليبراليين يساندون نظاماً دكتاتورياً أو فاشياً، ويشاركونه التجييش ضد المعارضين بشيطنتهم. حتى التنكر كليبراليين يُلزِمُهم ببعض التظاهر على الأقل.
عزمي بشاره
صحيفة العربي الجديد