القرار الجديد للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية تستهدف قطاع الصناعات البتروكيماوية الإيرانية، يعيد الأزمة بين طهران وواشنطن إلى نقطة الصفر، أو المربع الأول للأزمة التي بدأت في الثامن من مايو/أيار 2018 عندما أعلن ترامب العودة إلى العقوبات الاقتصادية بالتزامن مع الانسحاب من الاتفاق النووي.
وعلى الرغم من أن الإدارة الإيرانية كانت قد وضعت في اعتباراتها أن لجنة العقوبات الامريكية ستلجأ إلى فرض عقوبات على قطاع البتروكيماويات بعد دخول قرار تصفير الصادرات النفطية، واستهداف قطاع الصلب والمعادن، لما يشكله هذا القطاع من أهمية في الصادرات الإيرانية، الذي يصل إلى حدود 34% من حجم الاقتصاد.
الخطوة الأمريكية بالعقوبات الجديدة جاءت بالتزامن مع أجواء إيجابية عن جهود تبذل خلف الكواليس من أجل الحد من تصاعد التوتر بين طرفي الأزمة، عززتها الزيارة المرتقبة لرئيس الوزراء الياباني شينزو آبي إلى طهران في أول وساطة علنية بموافقة طهران وواشنطن وقبولهما، ما زاد من إمكانية التوصل إلى مخارج للحل، خصوصا بعد تراجع الخيار العسكري من دون إلغائه نهائيا، أو من دون إبعاده عن طاولة الخيارات الأمريكية. فهذه الخطوة قد تساهم في تعقيد مهمة الوسيط الياباني، على الرغم من أهمية الرسائل الأمريكية التي قد يحملها معه، والتي بدا أن طهران تأخذ هذه الزيارة وما قد تسفر عنه من نتائج على محمل الجد، من خلال استدعاء سفيرها في الأمم المتحدة مجيد تخت روانتشي (روانچی) إلى طهران، استعدادا للزيارة اليابانية.
وعلى الرغم من أن القرار الأمريكي قد يدخل في إطار الحرب الاقتصادية المستعرة مع الصين، إذ تعتبر بكين من أكبر الدول المستثمرة المستوردة للنفط والمشتقات النفطية والبتروكيماويات الإيرانية، فطهران أعلنت في مطلع أغسطس/آب 2018 عن التوصل إلى اتفاق مع كونسورتيوم آسيوي (صيني- فلبيني) لاستثمارات تقدر قيمتها بنحو 7 مليارات دولار في صناعات البتروكيماويات، إلا أنه يدفع بإمكانية وصول الوساطة اليابانية إلى تفاهمات تؤسس لبدء عملية تفاوضية، إلى طريق مسدود، خصوصا أن الجانب الإيراني سيزداد تمسكا وتشبثا بمواقفه الرافضة لأي تفاوض، في ظل تصاعد حدة العقوبات الأمريكية ضده، إلى الحد الذي دفع قيادات النظام، خصوصا وزير الخارجية محمد جواد ظريف إلى اعتبار العقوبات بمثابة الوجه الآخر للحرب العسكرية، وأن الجلوس الإيراني إلى طاولة المفاوضات في ظل هذه العقوبات بمثابة استسلام أمام الشروط الأمريكية التي تم التخلي عنها كشروط مسبقة «كلاميا واستعراضيا»، وهو «ما لا يمكن لإيران القبول به» حسب تعبير الرئيس الإيراني حسن روحاني.
التصعيد الأمريكي في العقوبات الاقتصادية، قد يكون الهدف منه تضييق الخناق على المفاوض الإيراني الذي مازال يبدي مقدارا عاليا من عدم الاستجابة للشروط والمطالب الأمريكية في ملفين أساسيين هما، البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي. ويبدو التصلب الإيراني في هذين الملفين ظاهرا، من خلال ردود الأفعال الإيرانية على المؤتمر الصحافي المشترك بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، واتفاقهما على ضرورة تقييد الطموحات الإيرانية الصاروخية والإقليمية، ما دفع الجانب الإيراني وعلى لسان «ظريف» للعودة إلى القرار رقم 2231 الصادر عن مجلس الأمن، الذي وضع حدودا للطموحات الصاروخية بتخلي إيران عن أي محاولة لتطوير قدراتها الصاروخية القادرة على حمل رؤوس نووية، مشيرا إلى أن من «خرج من الاتفاق النووي لا يملك حق تفسير هذا القرار الواضح»، خصوصا في ظل الموقف الرسمي الصادر عن المرشد الأعلى للنظام بتحريم السلاح النووي، والمساعي لتحويل هذا الموقف إلى قانون يصدر عن البرلمان الإيراني.
المفاوض الإيراني لا يبدي استجابة للمطالب الأمريكية في ملفين أساسيين هما، البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي
الدخول الفرنسي إلى الملعب الأمريكي بشكل واضح أعاد الذاكرة الإيرانية إلى مسار المفاوضات التي جرت حول الملف النووي، واتهام باريس بأنها لعبت دور «الشرطي السيئ» الذي مثل المصالح الإسرائيلية على طاولة المفاوضات. وقد يساهم في زيادة الشكوك الايرانية في النوايا الأوروبية في الإبقاء على الاتفاق النووي بعد الانسحاب الأمريكي، خصوصا أن الموقف الفرنسي غير المستجد، لكنه بات اكثر وضوحا، قد يعني تعقيدا في عملية إطلاق آلية التعامل المالي المشتركة «انستكس»، بعد أن أبدى الطرف الروسي نيته الانضمام إليها لتسهيل عملية التبادل التجاري والاقتصادي مع إيران. وبالتالي فإن من المتوقع أن تدفع هذه التطورات والمواقف التصعيدية الجانب الايراني للابتعاد عن الإيجابية، التي بدأت تتمظهر لصالح التيار المؤدي للتفاوض، وفي مقدمته رئيس الجمهورية ووزير خارجيته، ما يعني تعزيز التيار المتشدد، الذي سيتخذ من موقف المرشد الأعلى المشكك بالنوايا الأمريكية والرافض للتفاوض «لا حرب ولا تفاوض» ذريعة للعودة إلى السير على حافة الهاوية، من خلال العودة إلى مسار رفع مستوى التهديد الأمني واستفزاز الانتشار العسكري الامريكي، من دون أن يكون هدفه الذهاب أو الوصول إلى مواجهة عسكرية مباشرة، بل من أجل محاولة تحسين شروط التفاوض التي يتمسك بها الامريكي، بعد أن وضع مرشد النظام مسألة النفوذ الاقليمي والبرنامج الصاروخي في مصاف «العرض والناموس» للنظام، وأي تفاوض عليها يعني التنازل عن جزء منها وهذا ما قد يعقد الجهود المبذولة لتقريب المواقف والسعي لفتح باب الحوار بين الطرفين.
في ظل هذه التطورات، قد لا يكون خيار إيران النهائي الانسحاب من الاتفاق النووي كرد على تصعيد المواقف والعقوبات، إلا انها في نهاية مهلة 60 يوما التي منحتها لمجموعة دول 4 +1 ( الاسم الايراني الجديد لمجموعة الدول المتبقية في الاتفاق النووي) عندما قررت وقف تصدير الفائض عن حصتها التي حددها الاتفاق (130 كليو) من اليورانيوم المخصب والماء الثقيل، ستعمد إلى اتخاذ خطوات تتعلق بتركيب مجموعات جديدة من أجهزة الطرد المركزي المتطورة في منشأتي نطنز وفردو، من شأنها إيصال رسالة واضحة لواشنطن وهذه الدول، بأن الحفاظ على الاتفاق وفعاليته هي مسؤولية جماعية تمر من بوابة التزام الدول الموقعة بتعهداتها، وان الضغوط الأوروبية وخاصة الفرنسية بطرح مسائل مستجدة لن يدفع ايران للدخول في هذه اللعبة، التي لن تكون في صالحها.
القدس العربي