قبل أيام من القمة الثلاثية التي ستجمع بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والإيراني حسن روحاني والتركي رجب طيب أردوغان، الأطراف المعنيون بما يُعرف بمسار أستانا حول الأزمة السورية، قررت كل من فرنسا وبريطانيا إرسال قوات عسكرية للانتشار في مناطق شمال سوريا وشرق الفرات، بناءً على طلب من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وفق ما كشفت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية.
ومن المفترض، وفق المعطيات الميدانية، أن تكون منطقة عمليات القوات الفرنسية والبريطانية في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية الكردية (قسد) في شمال شرقي سوريا على طول الحدود المشتركة مع تركيا، ما يعني توسيع نطاق عمل القوات الفرنسية، على الأقل، من منطقة منبج باتجاه مناطق شرق الفرات وسيطرة القوات الكردية، لكن هذه المرة بمؤازرة بريطانية.
التنافس على سوريا
في 29 مارس (آذار) 2018، استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه وفداً من الناشطين السوريين (مسيحيون وعرب وأكراد) لمدة ساعة لبحث مستقبل الدور الفرنسي في مناطق سيطرة الفصائل الكردية والمعارضة في شمال سوريا، ليعلن بعدها ترمب، في ديسمبر (كانون الأول) 2018، سحب قواته من سوريا. ما دفع الرئيس الفرنسي إلى المسارعة بالإعلان عن إرسال قوات فرنسية إلى هذه المناطق للانتشار في منطقة منبج، بهدف قطع الطريق على دخول القوات التركية، التي سعت عبر معركة مدينة عفرين إلى فرض سيطرتها العسكرية على المناطق الشمالية لسوريا ومنع القوات الكردية من فرض أمر واقع لا تريده أنقرة.
الدور الفرنسي في سوريا، خصوصاً في الشمال، بدأ منذ انتقال الانتفاضة السورية من المستوى السلمي إلى المستوى العسكري، وتصاعد وصولاً إلى المرحلة العلنية، عندما أعلن وزير الدفاع جان إيف لودريان في يونيو (حزيران) 2016 أن قوات العمليات الخاصة في الجيش الفرنسي تقوم بتأمين وتوفير إمدادات السلاح والحماية الجوية وتقديم الاستشارات لقوات سوريا الديمقراطية، التي تقاتل لاستعادة مدينة منبج من سيطرة تنظيم “داعش”. واستمرت هذه المساعدات عام 2017 في معركة الطبقة، جنوب منبج بالقرب من الرقة.
هذا القرار يكشف بداية أن سوريا لا تزال ساحة تنافس رئيسة بين اللاعبين الإقليميين والدوليين. ويكشف ثانياً عن استمرار الخلاف بين روسيا وإيران من جهة والعواصم الكبرى ومعها تركيا من جهة أخرى، حول توصيف التطورات التي شهدتها الساحة السورية، وما حققته هاتان الدولتان في إعادتهما تثبيت النظام وحكومته وعودة سيطرته على مجمل الأراضي السورية، ومساعيهما إلى الدفع بالعملية السياسية لتكريس آخر حلقات تثبيت النظام، وبالتالي تكريس دورهما ونفوذهما على الساحة السورية، في ظل رفض العواصم الكبرى، خصوصاً واشنطن وباريس، إضافة إلى تركيا، الاعتراف بهذا الواقع ومحاولة عرقلة الانتقال إلى المسار السياسي من أجل تكريس حصتها ودورها في الحل وتقاسم الحصص، وما يعنيه ذلك من شراكة مع روسيا على حساب الحصة والدور الإيرانيَّيْن.
برلين ترفض ضغوط واشنطن لإرسال قوات برية إلى شمال سوريا
ويبدو أن موقف الحكومة الألمانية برفض إرسال قوات عسكرية إلى سوريا بعد طلب ترمب، ومطالبتها واشنطن بدفع الفاتورة والأكلاف المالية لهذه المشاركة في حال وافقت، يعززان الاعتقاد بأن ترمب بات على وشك سحب قواته وأنه يحاول ابتزاز حلفائه الأوروبيين والحلف الأطلسي بمبادلتهم الاحتفاظ بدور ونفوذ على الساحة السورية مقابل تولي هذه المهمة عوضاً عن القوات الأميركية.
هذا التطور الأمني والعسكري يكشف عن إمكانية وجود نية جدية لدى الرئيس ترمب لتنفيذ القرار، الذي سبق أن اتخذه قبل نحو سنة ونصف بسحب القوات الأميركية من سوريا بشكل نهائي. ثم عاد وتحت ضغط من فريقه الأمني والاستراتيجي إلى تقليص هذا الوجود والإبقاء على 200 جندي، خصوصاً في قاعدة التنف وإلى جانب قوات “قسد” الكردية، في مدينة الرقة. كما أن الطلب الأميركي من الحلفاء في أوروبا والحلف الأطلسي بإرسال قوات إلى سوريا يأتي من باب إحلال هذه القوات مكان الجنود الأميركيين، بغية الإبقاء على وجود عسكري يقطع الطريق على تحويل مناطق شمال سوريا إلى منطقة صراع بين الجيش السوري، مدعوماً من الحليفين الروسي والإيراني والقوات الكردية، ولمنع الرئيس التركي أردوغان من تحريك قواته العسكرية المحتشدة على الحدود مع سوريا لملء الفراغ الحاصل نتيجة الانسحاب الأميركي، والدخول في معركة عسكرية مع القوات الكردية التي تصنفها الحكومة التركية منظمات إرهابية. وبالتالي، فرض أمر واقع تركي جديد يعيد خلط الأوراق ويخرج العواصم الكبرى من اللعبة السورية، فتتحول تركيا إلى شريك أساسي في هذه الساحة، بعيداً من هذه العواصم. ما يعني أنها ستكون قادرة على الجلوس إلى طاولة أستانا كشريك فاعل وأساسي في مواجهة اللاعبين الروسي والإيراني، انطلاقاً من اتساع دورها وعدم حصره في محافظة إدلب وما تتعرض له وبسببه من ابتزاز سياسي وأمني من جميع الأطراف.
الموقف الإيراني
تعتبر إيران أن الموافقة الفرنسية والبريطانية على إرسال قوات إلى شمال سوريا سيستغله فريق الأمن القومي (جون بولتون) للرئيس الأميركي، ويقدمه على أنه “انتصار مهم”، وأن هذه القوات ستعمل على ملء الفراغ الذي سيتسبب به انسحاب القوات الأميركية من سوريا. في حين أنها لا تتعامل مع وجود القوات الأميركية سابقاً ولا القوات الجديدة باعتباره مصدر “قلق” لها ولخططها في سوريا، انطلاقاً من اعتبارات عدة، في مقدمتها أنها استطاعت نسج علاقات عميقة ومتشعبة مع الفصائل الكردية، خصوصاً الجماعات التابعة للزعيم الكردي عبدالله أوجلان. وهي لم تتعامل مع الواقع الذي فرضته قوات سوريا الديمقراطية على أنه واقع لا يمكن التعامل معه، إضافة إلى مقدرتها على لعب دور فاعل بين هذه القوات والحكومة السورية.
كما أن القرارين الأوروبي والأميركي يأتيان في وقت تخوض طهران عملية تفاوضية مع الفصائل الكردية السورية في إحدى العواصم الأوروبية بهدف التوصل إلى تفاهمات حول مستقبل مناطق شرق الفرات أو الشمال السوري، والآلية السياسية والإدارية والدستورية التي ستربطها مع الحكومة المركزية، ثم عودة هذه المناطق إلى سيطرة النظام في إطار ضمانات إيرانية وروسية حول مستقبل أوضاعها في تركيبة النظام بعد انطلاق عملية الحل السياسي.
وتعتقد طهران أن زيادة الوجود العسكري الأوروبي (الفرنسي والبريطاني) في سوريا لا يصب في إطار القيام بمهمات عسكرية أو رفع مستوى مشاركتهم في العمليات العسكرية في سوريا، بل من أجل تأمين مصالحهم الاقتصادية بالاستفادة من الوجود العسكري، أي تشكيل غطاء عسكري لفرض مصالحهم الاقتصادية في عملية إعادة الإعمار ما بعد انطلاق الحل السياسي. لذلك، فإن هذه العوامل المشتركة والمتداخلة لا تشكل مصدر قلق لطهران، التي لن تكون وحيدة في مواجهة هذه الطموحات الأوروبية. فاللاعب الروسي سيكون أكثر شراسة في الدفاع عن مصالحه الحيوية والاستراتيجية في سوريا. وهو يراهن على تفهم تركي لخطورة هذه الخطوة، التي تستهدف دور أنقرة وترفع من وتيرة مخاوفها من تشكيل مظلة أوروبية للفصائل الكردية على حدودها الجنوبية، وما تحمله من احتمالات خطرة على أوضاعها الداخلية.
اندبندت