توضح مجموعة من الإشارات التي سجّلت في العراق مؤخرا إلى اتخاذ الاحتجاجات الشعبية الواسعة فيها طابعا وطنيّا متزايداً، بحيث تجاوزت هذه الاحتجاجات في مطالبها نقد الشبكة الواسعة من الفساد السياسي والمالي، والقمع ضد المتظاهرين، بل وحتى إسقاط النظام، إلى انتقاد التدخّل الإيراني في العراق واعتباره المسؤول عن هذا النظام.
لا أحد يستطيع أن ينكر، أن قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني، الشخصيّة التي يجري الاحتكام إليها في المنازعات بين الرؤساء الثلاثة، أو بين الأحزاب والميليشيات العراقية، وتردّدت على مدار السنوات الماضية أنباء عديدة ليس عن تحكّم سليماني، بصفته ممثلا للجمهورية الإسلامية الإيرانية، في العراق، بل حتى عن قيادته لبعض المعارك العسكرية في العراق، بشكل ينتقص السيادتين السياسية والعسكرية للدولة العراقية.
ورغم أن الأغلبية السكانيّة العراقية هي من الشيعة، فقد صار واضحا، مع الاحتجاجات الأخيرة خصوصا، أن المنظومة الطائفيّة التي اعتاشت عليها أهم الكتل الحزبية والسياسية العراقية لم تعد قادرة على تفسير أو تبرير انتهاك سيادة العراق على الشكل الفاضح الحاصل، وخصوصاً مع استلام بعض الميليشيات العسكرية العراقية مهمة القمع الوحشيّ للمتظاهرين، والمشاركة في القنص والخطف والتعذيب، وبذلك سقط القناع الطائفيّ وظهرت المصالح المادية والامتيازات والفساد، من جهة، والتبعيّة لإيران، من جهة أخرى.
وبدلاً من استخدام إيران لسياسة تفهّم واحتواء للاحتجاجات، كما حصل سابقا في إيران نفسها، فإن المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي محا الأسباب العميقة التي دفعت الجماهير للتظاهر واكتفى باتهام الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية وإسرائيل بـ«إثارة الاضطرابات» و«أعمال الشغب».
كان لافتا بعد ذلك إعلان المرجع الديني الشيعي الأعلى في العراق، آية الله علي السيستاني، يوم الجمعة الماضي عبر ممثله في خطبة الجمعة رفض المرجعية أن يقوم «طرف إقليمي أو دولي» بـ«فرض رأيه» على المتظاهرين في العراق، إضافة إلى طلبه «عدم زج القوات القتالية بأي من عناوينها» ضد المتظاهرين، وهو ما اعتبره العراقيون رداً على الموقف الإيراني، وكذلك على مواقف الميليشيات المحسوبة على طهران.
الردّ الشعبيّ لم يتأخر أيضاً، فقد هوجمت الرموز والمواقع الإيرانية، كما حصل في محاولة إحراق قنصلية طهران في كربلاء أول أمس، ما أدّى إلى مقتل 4 من المتظاهرين، وبشطبهم اسم الإمام الخميني من أحد شوارع مدينة النجف ووضع اسم «شهداء ثورة تشرين» بدلا عنه، وإتلاف صور له في مدن أخرى، وقيام ناشطين بوضع صورتين، واحدة لمتظاهرين متجمهرين في مبنى «المطعم التركي» في بغداد، وأخرى لمتظاهرين في مبنى مشابه خلال فترة الثورة الإيرانية، متسائلين كيف يكون أولئك الإيرانيون مشاركون في ثورة وأولئك العراقيون مشاركون في «أعمال شغب».
وفي الوقت الذي سارع مرشد الجمهورية الإيرانية إلى إدانة المتظاهرين العراقيين، كان موحدي كرماني، وكيله في خطبة الجمعة الأخيرة في طهران، يحذر من غضب الشعب الإيراني «المنهوب» ومن الأوضاع الاجتماعية المتفجرة، قائلاً إن الخوف «ليس من العدو» ولكن «من نسيان الفقراء».
لا يمكن أن يفسّر هذا التناقض بين الرؤية السياسية للمرشد ووكلائه نحو الفقراء الإيرانيين، والرؤية الأمنية نحو الفقراء العراقيين، إلا بمقاييس الدول المحتلّة لشعوب دول تحتلّها، وهو ما يفسّر اتخاذ الاحتجاجات العراقية، يوما بعد يوم، طابع ثورة وطنية واجتماعية في الآن نفسه، ويجعلها أقرب لحركة تستعيد الاستقلال العراقي وليس فقط إسقاط النظام.