قدمت الذكرى الثلاثون لانهيار جدار برلين فرصة لأحزاب اليمين واليسار في ألمانيا للتعبير العلني عن تبدلات مواقفها إزاء وحدة الشرق والغرب التي أنهت وجود جمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية السابقة) وأحالت إلى الماضي مؤسساتها السياسية ونظمها الاقتصادية وألحقت إقليمها ومواطنيها بجمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية السابقة) التي فرضت ديمقراطيتها البرلمانية واقتصادها الرأسمالي ولم تغير سوى الموقع الجغرافي لعاصمتها من بون في الغرب إلى برلين في الشرق.
استبقت مراكز استطلاعات الرأي العام الذكرى الثلاثين لانهيار جدار برلين، ذلك الانهيار الذي أحدثته في 1989 انتفاضة شعبية في الشرق الألماني مهد لها التغير الكبير في سياسات الاتحاد السوفييتي السابق حين قرر ميخائيل غورباتشوف الامتناع عن التدخل العسكري لحماية الأحزاب الشيوعية الحاكمة في أوروبا الشرقية وتركها لإرادة مواطنيها دون دبابات وقوات سوفييتية، بالإعلان عن الخطوط العريضة لتوجهات الألمان بشأن الوحدة في 2019. ولفت النظر في هذا الصدد تصاعد نسب التقييم الإيجابي للوحدة لتتجاوز ثلثي المواطنين في الشرق والغرب، وتراجع الحنين بين الألمان الشرقيين إلى جمهورية ألمانيا الديمقراطية وتفاصيل حياتهم بها إلى ما دون العشرين بالمائة، وحضور أغلبية كبيرة في الشرق والغرب ترى أن التقارب اليوم بين شطري ألمانيا تغلب على مخاوف واغتراب وسلبية انطباعات سنوات الوحدة الأولى (استطلاع رأي معهد «فورسا» للأبحاث واستطلاع رأي صحيفة «زيدديوتشه تسايتونغ»، وكلاهما نشر في 9 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري). وفيما خص التوجهات السياسية للأقلية التي ما لبثت تتمنى عودة «ألمانيا الشرقية» السابقة أو تقيم الوحدة على نحو سلبي، دللت الاستطلاعات على نزوع تلك الأقلية إما لتأييد أحزاب اليمين المتطرف (حزب البديل لألمانيا) أو للتصويت الانتخابي لحزب اليسار («دي لينكه») الذي خرج جزئيا من عباءة نخبة حكم ما قبل 1989 في الشرق.
لأحزاب يمين ويسار الوسط في ألمانيا، وهي الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر، قدمت نتائج استطلاعات الرأي العام فرصة ذهبية للتشديد على القبول الشعبي لسياستهم التي لم تشكك منذ 1989 لا في الوحدة ولا في حتمية تبني الديمقراطية البرلمانية والاقتصاد الرأسمالي (المسؤول اجتماعيا وبيئيا، وإن اختلف مفهوم المسؤولية هنا من حزب إلى آخر) وأصرت على التعامل النقدي مع الإرث القمعي لجمهورية ألمانيا الديمقراطية. ومع التذكير بكون أحزاب يمين ويسار الوسط هذه هي أحزاب نشأت في غرب ألمانيا وعبرت عن التركيبة السياسية التقليدية في مجتمعات غرب أوروبا ولم تتغير هويتها كثيرا بعد الوحدة، إلا أن تمكنها منذ 1989 وإلى اليوم من الحصول على أغلبية أصوات الناخبين في كافة الانتخابات البرلمانية على المستوى الاتحادي وفي العدد الأكبر من انتخابات برلمانات الولايات (لألمانيا نظام فيدرالي به برلمان اتحادي وبرلمانات للولايات) إنما يثبت بالفعل التعاطي الإيجابي للمواطنين معها وتمسك أغلبيتهم في الشرق والغرب بالوجهة الديمقراطية البرلمانية والطبيعة الرأسمالية لألمانيا الموحدة ورفضهم القاطع للعودة إلى حكم «الحزب الواحد وأجهزة الاستخبارات» الذي آلت إليه جمهورية ألمانيا الديمقراطية ذات الأيديولوجية الشيوعية قبل انهيار جدار برلين.
لا يدرك الكثيرون أن من غير معاصري جمهورية ألمانيا الديمقراطية بين لحظة التأسيس في 1949 ولحظة الانهيار في 1989 أو ممن لم يقتربوا من تفاصيل حياة الألمان الشرقيين بعد الوحدة، لا يدركون سطوة الإدانة الشعبية لجمهورية الرأي الواحد والتربية العقائدية الأحادية التي أسسها الشيوعيون في الشرق وفرضوا من خلالها خليطا من الصمت والخوف والعقاب والتلصص المتبادل على يوميات الناس، ولا يدركون شيوع اليأس بين النخب الثقافية والفكرية والفنية في السنوات الأخيرة من العمر القصير لجمهورية ألمانيا الديمقراطية بسبب ثلاثية تراجع النمو الاقتصادي وغياب فرص النقد والتصويب الذاتيين والسيطرة الشاملة لأجهزة الاستخبارات على مؤسسات الدولة وقطاعات المجتمع وتوسعها في قمع الكتاب والمفكرين والفنانين الذين أرادوا التعبير الحر عن آرائهم والمطالبة بإدخال إصلاحات جذرية.
كان انهيار جدار برلين في 1989 بمثابة الانتزاع الشعبي للحرية، حرية التعبير عن الرأي وحرية التفضيلات السياسية بعيدا عن جمهورية الرأي الواحد والخوف والتلصص وحرية اختيار الوحدة مع الغرب وحرية قبول الديمقراطية البرلمانية
كان انهيار جدار برلين في 1989 بمثابة الانتزاع الشعبي للحرية، حرية التعبير عن الرأي وحرية التفضيلات السياسية بعيدا عن جمهورية الرأي الواحد والخوف والتلصص وحرية اختيار الوحدة مع الغرب وحرية قبول الديمقراطية البرلمانية والاقتصاد الرأسمالي الضامنين لحكم القانون والتداول السلمي للسلطة. كان انهيار جدار برلين في 1989 بمثابة الإنهاء الشعبي للقمع الاستخباراتي والأمني لمواطنين صنفتهم نخبة الحكم السابقة في الشرق كأعداء «للنظام الاشتراكي» أو كخطر على بقاء «الجمهورية السعيدة» حول برلين وحرموا بالتبعية من نشر أعمالهم ككتاب أو ممارسة مهنهم الفنية أو طردوا من الجامعات والصحف، وهم أولئك الذين وثقت الاستخبارات الألمانية الشرقية عمليات قمعهم وإجراءات التجسس والتلصص عليهم في بروتوكولات تفصيلية يطالعها اليوم من يرغب من المواطنين لكيلا لا ينتشر زيفا الحنين إلى ماض انتهكت به الحريات وحقوق الإنسان.
لا يعني تصاعد معدلات التقييم الشعبي الإيجابي للوحدة وللتقارب بين الشرق والغرب غياب القراءة النقدية للأوضاع الراهنة في ألمانيا، مثلما لا يعني تراجع الحنين بين الشرقيين إلى ما قبل 1989 خفوت صوت الأقلية المتباكية على جمهورية ألمانيا الديمقراطية. فمن جهة، تخشى أغلبية المواطنين من خطر تراجع المكاسب الاقتصادية والاجتماعية التي ضمنتها لها ثنائية الديمقراطية البرلمانية والاقتصاد الرأسمالي خلال العقود الماضية. وفي حين يلقي البعض من ناخبي يمين الوسط باللوم إما على السياسات المترددة للحزب المسيحي الديمقراطي برئاسة المستشارة أنجيلا ميركل فيما خص ملفات الهجرة واللجوء أو على القيود الكثيرة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على أعضائه فيما خص سوق العمل والإنفاق الحكومي والسياسات الضريبية، يرى ناخبو يسار الوسط أن تراجع المكون الاجتماعي والبيئي للرأسمالية الألمانية والأوروبية هو المهدد الأكبر لمكاسب الأغلبية ومصدر القلق الوجودي للمواطنين. وبينما يعاقب ناخبو يمين الوسط غير الراضين عن الأوضاع الراهنة الحزب المسيحي الديمقراطي بالتصويت إما لليمين المتطرف أو ليسار الوسط، يتجه ناخبو يسار الوسط إلى التخلي عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي (شريك ميركل في الائتلاف الحاكم على المستوى الاتحادي) وإلى التصويت لحزب الخضر الذي بات يجسد التعبير السياسي الأوضح للسياسات الاجتماعية والبيئية المسؤولة. لا انتصارات نهائية للديمقراطية البرلمانية أو للاقتصاد الرأسمالي هنا، بل الحاضر هو أغلبية ألمانية تبحث دوما من خلال حكم القانون والانتخابات الدورية وتداول السلطة وبتفضيلات متنوعة عن تصويب المسارات الاقتصادية والاجتماعية.
ومن جهة أخرى، ليس تراجع الحنين إلى جمهورية ألمانيا الديمقراطية بمتلازم مع خفوت أصوات الأقلية المتباكية على ما قبل 1989. هذه الأقلية، وهي اليوم دون خمس السكان وفقا لاستطلاعات الرأي العام الأخيرة، تتباكى في أوساط اليمين المتطرف على النقاء العرقي واللغوي للشرق قبل الوحدة (محدودية عدد الأجانب المقيمين في السوق قبل 1989) وما زالت في أوساط اليسار تتباهى بما تراه عدالة اجتماعية وضمانات كانت تأتي من مؤسسات الدولة لتقديم خدمات تعليم وصحة ومعاشات تحترم كرامة الإنسان. غير أن نوستالجيا الأقلية باتت تخترق من داخلها، حين يذكر اليمين المتطرف المعادي للأيديولوجية الشيوعية وللأفكار الاشتراكية بالقمع الذي مارسته نخبة حكم واستخبارات ألمانيا الديمقراطية السابقة ضد المواطنين وحين يكرر اليسار في الشرق موقفه الرافض لأوهام النقاء العرقي واللغوي. بل وباتت نوستالجيا الأقلية تخترق من خارجها، عبر إشارات متواترة لأحزاب يمين ويسار الوسط والنخب الثقافية والفكرية والفنية المعاصرة إن إلى جودة بعض النظم الاجتماعية التي سادت في الشرق قبل 1989 (رياض الأطفال والإيجارات السكنية على سبيل المثال) وضرورة العودة إليها، أو إلى حتمية خلق مساحات في السياسة والنقاش العام لمن يحنون إلى الماضي وتمكينهم من التعبير عن آرائهم بحرية دون إدانة من قبل الأغلبية ليس فقط لكيلا يتركوا فريسة لليمين المتطرف وليسار الأوهام – أوهام إحياء جمهورية الخوف والقمع والتلصص غير السعيدة التي كانت في الشرق، بل لتصويب فعل واختيارات الجمهورية الموحدة التي لا تحول نظمها الديمقراطية والرأسمالية دون إدخال تعديل جذرية على سياساتها الاقتصادية والاجتماعية.