في خطوة وصفها مراقبون بـ”المهمة والاستراتيجية”، قررت تركيا قطع علاقاتها التجارية مع إسرائيل، على وقع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. حيث أعلنت وزارة التجارة التركية -أمس الخميس- تعليق جميع معاملاتها التجارية مع إسرائيل، في ضوء ما وصفته الوزارة بـ”تفاقم المأساة الإنسانية” في الأراضي الفلسطينية، مشددة على أن تركيا لن تتراجع عن قرارها إلا بعد ضمان تدفق غير متقطع وكاف للمساعدات الإنسانية إلى غزة. من جانبه، قال وزير التجارة التركي عمر بولات، إن تعليق التجارة مع إسرائيل سيستمر حتى تأمين وقف إطلاق نار دائم في غزة وتدفق المساعدات الإنسانية بدون عوائق للفلسطينيين هناك.
وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الجمعة، إن تعليق أنقرة المبادلات التجارية مع إسرائيل يهدف إلى إجبار الأخيرة على وقف الحرب على غزة.ويعد القرار الذي أُعلن الخميس أحدث مؤشر على تدهور العلاقات بين تل أبيب وأنقرة. وصرح أردوغان أمام مجموعة من رجال الأعمال في إسطنبول “لقد اتخذنا بعض الإجراءات لإجبار إسرائيل على الموافقة على وقف إطلاق النار وزيادة كمية المساعدات الإنسانية التي تدخل” غزة. وأضاف “سنراقب تداعيات هذه الخطوة التي اتخذناها بالتنسيق والتشاور مع رجال أعمالنا”.
وأكد أردوغان، الجمعة، “نحن لا نبحث عن العداء أو النزاع في منطقتنا”، مردفا “لا نريد أن نرى نزاعا أو دماء أو دموعا في جغرافيتنا”.وتابع الزعيم التركي “نحن نعلم الآن أننا فعلنا الصواب”.وتابع أردوغان “لدينا هدف واحد هنا، وهو إجبار حكومة نتنياهو التي خرجت عن نطاق السيطرة بدعم عسكري ودبلوماسي غير مشروط من الغرب، على وقف إطلاق النار”.وأضاف “إذا تم إعلان وقف إطلاق النار والسماح بدخول كمية كافية من المساعدات الإنسانية إلى غزة، فسيتم تحقيق الهدف”.
لكن الإجراء التجاري الذي اتخذته تركيا ضد إسرائيل جاء بعد انتقادات داخلية لحكومة أردوغان لعدم تحركها بشكل عاجل. وترى بعض التحليلات السياسية التركية من هذا الموقف ، أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يريد أن يرقع موقفه من خلال هذا التصعيد المفاجئ ليمحو صورة من تخلى عن الفلسطينيين وأدار لهم الظهر، وإلا ما معنى وقف التعامل التجاري مع إسرائيل بعد أشهر من الحرب وعشرات الآلاف من الضحايا والملايين من المهجرين، ولماذا الآن وليس في الأشهر الأولى للحرب حين كان الوضع يستدعي الضغط على إسرائيل للتراجع. ويشعر الرئيس التركي أن كل ما كان يقوله عن دعمه للفلسطينيين ومزايداته على الآخرين قد فشل في أهم امتحان، وهو يتحرك في الوقت الضائع لإنقاذ صورته وصورة بلاده لدى الفلسطينيين والعرب.
ومن الواضح أن أردوغان لم يلجأ إلى التصعيد مع إسرائيل إلا بعد أن اطمئن إلى أن أميركا باتت تتقبل مواقف من هذا النوع، وهي نفسها صارت تنتقد سياسة الحكومة الإسرائيلية وتعارض اجتياح مدينة رفح، وفي وقت تحركت فيه الجامعات الأميركية والغربية عموما للاحتجاج على السلوك الإسرائيلي في الحرب.
ولم تتخذ أنقرة الخطوة التصعيدية مع إسرائيل في وقت سابق حتى لا تبدو وكأنها تتحرك عكس التيار، وربما تثير غضب الولايات المتحدة واللوبي الداعم لإسرائيل في الولايات المتحدة وتدفعه لعرقلة صفقة أف – 16، لكن التحرك الآن لن يكلف الكثير في ظل مناخ دولي معارض لاستمرار الحرب وضاغط لوقفها والتوصل إلى تهدئة طويلة الأمد. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: ما تداعيات تعليق تركيا علاقاتها التجارية مع إسرائيل؟
تعرف الفترة ما بين عام 1990 حتى بداية الألفية الجديدة بـ”الحقبة الذهبية” في العلاقات التركية الإسرائيلية، إذ تخللها توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين عام 1996.
واستمرت العلاقات التجارية بين البلدين بالتحسن، لاسيما بعد تحسن العلاقات الدبلوماسية بينهما، وزيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لتركيا في مارس/آذار 2022، مما أسهم في زيادة التعاون في مجالات التجارة والصناعة والتكنولوجيا والطاقة، على الرغم من بعض التوترات التي كانت تنشب بين البلدين من حين إلى آخر.
واحتلت إسرائيل المركز الـ13 في قائمة الدول الأكثر استيرادا للمنتجات التركية خلال عام 2023، مشكلة 2.1% من مجموع الصادرات التركية، بحسب البيانات الإحصائية التي أصدرتها هيئة الإحصاء التركية.
إلا إن التجارة بين أنقرة وتل أبيب انخفضت بنسبة تزيد على 50% منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى الرابع من ديسمبر/كانون الأول الماضيين، بحسب تصريحات وزير التجارة التركي، عمر بولات للجزيرة نت في وقت سابق.
ووفقا للمعطيات الصادرة عن هيئة الإحصاء التركية، شهدت الصادرات إلى إسرائيل انخفاضا من 489 مليون دولار في أكتوبر/تشرين الأول 2022 إلى 348 مليونا في أكتوبر/تشرين الأول 2023، كما تراجعت الواردات من إسرائيل خلال الفترة ذاتها من 241 مليونا إلى 99 مليونا.
وانخفض التبادل التجاري بينهما -في الفترة بين 7 أكتوبر/تشرين الأول و31 ديسمبر/كانون الأول 2023- إلى حوالي 1.3 مليار دولار، بتراجع بلغت نسبته 45% مقارنة مع العام 2022.
ترى التحليلات الاقتصادية أن التأثير المحتمل لإنهاء العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل على الاقتصاد التركي قد يبدو محدودا نسبيا. ويعزو هذا الرأي إلى طبيعة وحجم الاقتصاد التركي الذي يتميز بتنوع شراكاته التجارية وشبكته الواسعة، ما يجعله أقل عرضة للتأثر بشكل كبير جراء قطع التبادل التجاري مع دولة معينة.
إن تركيا تمتلك عدة وسائل ضغط أخرى يمكن استخدامها للتأثير على إسرائيل، مستشهدا بالتدابير التي اتخذتها أنقرة في مجال الطاقة، بما في ذلك إيقاف مشاريع تسهيل نقل الغاز من إسرائيل إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا. وهو ما يؤثر على طموحات تركيا الرامية إلى أن تصبح مركزا رئيسيا لتوزيع الطاقة في الشرق الأوسط، وتعزيز دورها في قضايا المنطقة ومكانتها كحاضنة إسلامية للقضايا الحساسة بالمنطقة.
وفي تطور ذي صلة أوردته صحيفة غلوبس، فإن فرض تركيا لحظر التصدير على البضائع المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية يعد بمثابة تذكير قاتم بالتوترات المتصاعدة بين البلدين. ومع قطع طرق التجارة الثنائية وتوتر العلاقات الاقتصادية إلى نقطة الانهيار، تواجه الشركات على كلا الجانبين مستقبلا غامضا مليئا بالتحديات والشكوك. وتقول غلوبس إن موقف أردوغان الصارم يشير إلى عمق العداء بين تركيا وإسرائيل، مما يثير الشكوك حول احتمالات المصالحة أو وقف التصعيد على المدى القريب.
أن رد أنقرة “المتأخّر” بقطع العلاقات التجارية قد يزيد أزمات إسرائيل الاقتصادية والضغط على حكومة دولة الاحتلال لتستجيب للنداءات الدولية بوقف إطلاق النار وكسر الحصار وإدخال المساعدات الانسانية. ويصف القرارات التركية بالعقابية والوحيدة على مستوى المنطقة والعالم، كما وصف ردود الفعل الإسرائيلية بأنها “هراء” ولا أثر لها على تركيا، حكومة وشعباً “لأن الديكتاتوريات والقتلة معروفون” ولا قيمة لكلام الكيان بحق الرئيس رجب طيب أردوغان المنتخب شعبياً، وحريّ بالكيان الإسرائيلي أن يلتزم بالاتفاقات الدولية وحماية الشعب الفلسطيني.
القرار التركي قد لا يؤثر مباشرة على الاقتصاد الإسرائيلي، بحسب خبراء، لكنه يمثل رسالة سياسية مهمة في توقيت حساس، لا سيما في ظل انكماش الاقتصاد الإسرائيلي، وتوجس المواطنين الإسرائيليين من هذه الملفات.