يوما بعد يوم، تسطّر ثورة العراق ملحمتها الوطنية، لتلتف من حولها كل طبقات المجتمع العراقي وأبنائه، نساء ورجالا وحتى أطفالا، على الرغم من الجهاز القمعي المسموم الذي يريد إسكاتها وقمعها بأقصى أنواع العنف، وبكل ما أوتي من وسائل إرهابية، سواء في القنص بالرأس والصدر أو بالقنابل المسمومة والمسيلة للدموع، وخطف الناشطين المؤثرين القياديين للتظاهرات، شبانا وشابات، وقتل أطباء ومسعفين وممرضات، وكذا أصحاب “التكتوك” الذين حوّلوا عرباتهم البسيطة لنقل المصابين، في سابقة أولى من نوعها من العنف في مواجهة ثورة وإخمادها بمثل هذا الإجرام. المشاهد الراقية في التنظيم والوعي والقيم والوطنية ليوميات الثورة منذ البداية تُكسب هذه الثورة شرعية دولة بالمعنى الحقيقي. لقد نظم مئات آلاف الناس الحياة في ساحة التحرير في بغداد، والساحات الأخرى، بطريقة الدولة، بل أفضل منها بسنوات ضوئية، إذ أبدعت في التنظيم والابتكار والاكتشاف لكل ميدان، لكي يدار بشكل فعال وعملي وبسلاسة لا مثيل لها.
حوّلت حالة التظاهر الذي هو فعل سياسي إلى طريقة حياة لم يعتد عليها العراقيون، وجدوا فيها زخما من النشاط والديناميكية والتفاعل الإيجابي السامي الذي أحدث حالة من العطاء الجماعي لا توصف، طغت على كل مشاهد الثورة الإنسانية العميقة لتلوّنها بأجمل الألوان، ولتجعل من تابعها وتفاعل معها يصفها، بأحاسيسه ومشاعره وبانفعال قوي وعفوية، بالأسطورة. تقول امرأة في ساحة التحرير باكية: كلما احتجت إلى طاقة أو فرح، آتي بسرعة إلى هذه الخيمة، أحس بروحي عراقية. الحمد لله طوّل بعمري، ورأيت هذه اللحظة.
في بضعة أيام، استطاع شباب محروم من العيش الكريم، ومهان ومحتقر من طبقة طفيلية جاء بها الاحتلال ونصّبها عليه حكاما لتنفيذ مخططاته، أن ينشئ وعيا عاليا، يتشارك فيه الجميع في
“استعاد أبناء الشعب العراقي بتظاهراتهم اللحمة الوطنية التي توهمت طبقة الاحتلال السياسية غيابها” العراق وخارجه، في سابقةٍ لثورة وحركة شعبية لا مثيل لهما. ولا تنطبق عليها قوانين الثورات السابقة في العالم. الأجيال التي خرجت هي بين 25 عاما و14 عاما، وغير مؤدلجة، ولم تشهد إلا نظام الاحتلال، فهي إما كانت صغيرة جدا عام غزو العراق في 2003، أو أنها ولدت في ذلك العام وبعده. لكنها عاشت قهر سنوات الإرهاب المنظم من الدولة وضيمها، حيث تقتل المفخخات أبناء العراق بالمئات يوميا. يسمعون بالثلاثاء الدامي والأربعاء الدامي وحريق الكرادة ومفخخات بغداد الجديدة والكرادة ومجازر الأنبار والحويجة وجامع سارية والحويجة وسبايكر وتسليم الموصل لمسلحي “داعش”. يشهدون المأتم في كل بيت، ويسمعون العويل ويشاهدون اللباس الأسود الذي تتشح به النساء في كل مكان، محرومين من العفوية والضحكة ولعب الأطفال في الأزقة والحدائق.
أحدثَ هذا الجيل ثورة ديمقراطية وشعبية، عابرة للأحياء والمدن العراقية، ولمكونات الشعب المختلفة، ليستقبل في ساحة التحرير وباقي ساحات العز والفخر جميع مكونات شعبنا التي رفعت صوتها مفتخرة بهويتها الوطنية فقط، لتُسقط بالضربة القاضية نظام المحاصصة الطائفية البغيض، مسخ الاحتلال الأميركي ووكيله الإيراني. في إعلان شعبي واسع لخيار مفهوم المواطنة، وتأسيسٍ جديدٍ لعلاقة المواطن بالدولة، التفّت حوله عقول العراقيين ومشاعرهم. تجلت في هذا الفضاء المساواة بين الجنسين بشكل طبيعي، وتقدّم المرأة صورا في الإسناد والشجاعة للشباب والمتظاهرين، تمثلت في الطبيبات المسعفات والممرضات المسرعات على ظهور العربات، لينجدن جرحى الساحات. فيما ينشر أتباع قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، والأحزاب الطائفية، رسائل يحثون فيها النساء على عدم الخروج في التظاهرات، للحفاظ علي شرفهن، بينما لم ينبس أحد منهم بكلمة عن اختطاف شاباتٍ نزلن للتظاهرات، أو عن اختطاف من دفعن الأموال لشراء بنزين التكتوك لأبطال الإسعاف من سائقيها، لتختفي ظواهر الإساءة للفتيات والنساء، وليعود الاحترام للمرأة التي خرجت، ليس فقط متظاهرة تطالب بحقها، بل لتقود تظاهرات الرجال وطلاب الجامعات في كل المدن، يردّد خلفها الرجال أهزوجاتها الرائعة : “هاي هاي الناصرية” و”اليوم ألعب جوبي من ساحة الحبوبي” و”اليوم أعلي راسي من ساحة الحبوبي” و”كل جابت خابت بس آنا”، لتسجَّل هذه الأهزوجات مع نظيراتها لثورة العشرين المشهورة “هزيت ولوليت لهذا اليوم”، أي ربيت ابني لهذا اليوم.
لقد استعاد أبناء الشعب العراقي بتظاهراتهم اللحمة الوطنية التي توهمت طبقة الاحتلال السياسية غيابها، بالسموم الطائفية المصنوعة في مختبرات الفتنة وشق الصفوف، ليؤسسوا لقاعدة الدولة التي يطمحون إليها، رافعين لافتات رفض التدخل الأجنبي من أي بلد كان، مطالبين بعدها بتقرير مصير العراق بأنفسهم، وبدولةٍ يكتب فيها العراقي دستوره، وهو ما بدأه المتظاهرون في ساحة
“أحدثَ هذا الجيل ثورة ديمقراطية وشعبية، عابرة للأحياء والمدن العراقية، ولمكونات الشعب المختلفة”التحرير، حيث نصبوا خيمة ليكتب في داخلها دستور العراق الجديد. لقد دوّن المتظاهرون عشرين مطلبا، كلّ منها يغطي واحدا من جوانب علاقة المواطن بالدولة، يؤسّس لدولة مواطنة ومساواة، ولدولة ديمقراطية ترعى شؤون مواطنيها، دولة عدالة انبثقت من معاناة الشعب، ومن إرادة كل فئاته وطبقاته. تواجه التظاهرات اليوم دولة المؤامرات الخارجية التي جاءت أحزابها خلف الدبابة الأميركية، وشكّلت مجلس حكمها برعاية الحاكم الأميركي، بول بريمر، الذي أحضر دستور نوح فيلدمان، المحامي الأميركي من حلقة المحافظين الجدد، ليكون “دستورا مقدسا” للعراق “لا يجوز بأي حال تغييره”، حسب إحدى مواده. ولتصبح هذه الأحزاب الإسلامية المصنوعة في إيران واجهته الأمثل، دمى و”كومبارس” للتغطية على خطط تدمير العراق. وتفيد الإحصائيات العالمية الاقتصادية بأن ما دخل العراق بين 2003-2019 هو تريليونا دولار، وهو أكبر رقم لمداخيل العراق منذ تأسيس الدولة العراقية. ولكن هذه الأموال، وباعتراف ساكني المنطقة الخضراء أنفسهم الذين يصرّحون، عبر شاشات التلفزيون، إنهم فاسدون يسرقون أموال الشعب، وكل همّهم الكعكة والحصص لهم ولعوائلهم وحاشيتهم: اعترافات مشعان الجبوري وحنان الفتلاوي مثلا، وتصريحات النائب في كتلة “سائرون”، ماجدة التميمي، عن الفساد وتمويل أحزاب عربية تابعة للحرس الإيراني من خزينة العراق، وبشكل لا يظهر في السجلات. وهذه اعترافات صريحة ينطبق عليها قانون الاعتراف سيد الأدلة، لكن القانون في العراق لا يعطي فقط آذانا طرشاء للفساد، بل هو المؤسسة التي يحتمي بها كل الفاسدين من هذه الطبقة.
تعاني كل الدول من آفة الفساد، لكنّه ضرب، في عملية الاحتلال السياسي في العراق، رقما قياسيا ولسنوات. وأصبحت سرقة المال العام بالمليارات، وليس بالملايين، بين شركات وعقارات في
“أصبحت سرقة المال العام بالمليارات، وليس بالملايين، بين شركات وعقارات في لندن وواشنطن وباريس”لندن وواشنطن وباريس، وبين استحواذ على قطاعات الثروة الوطنية كالنفط والطيران والاتصالات والصناعة والأسواق المحلية المحظورة من الإنتاج العراقي لصالح السوق الإيرانية، وأمور أخرى تشمل كل ميادين الحياة. وفي مقابل هذا كله، يعيش العراقي، منذ الغزو، في بلد تصنفه معاهد التقييم العالمية أسوأ بلد للعيش، وبغداد أوسخ مدينة بسبب انعدام الخدمات من الدولة، وخصخصة قطاع الكهرباء، وتركه بيد النفوس الجشعة التي تضع شعبا كاملا تحت رحمتها، لكي تتضاعف حساباتها البنكية وسرقاتها من المال العام.
حكومات المنطقة الخضراء فاقدة أصلا للشرعية، لأنها من تصميم “المؤامرات الخارجية”، التعبير الذي وصف به مرشد إيران، علي خامئني تظاهرات ثورة العراقيين. أما حكومة عادل عبد المهدي فقد جاءت بعد انتخابات غير دستورية، شارك فيها فقط أقل من 20% من الشعب العراقي، وتم تنصيب عبد المهدي رئيسا للوزراء بطريقة غير دستورية، فلا توجد في الدستور العراقي مادة تنص على تنصيب رئيس الوزراء بالتوافق. وهو اليوم فاقد أكثر للشرعية بسبب نزول ملايين العراقيين مطالبين برحيله، ورحيل طبقة العملية السياسية الأميركية الإيرانية التي جاءت مع الغزو. يهتفون: كلكم يعني كلكم. ويوما بعد يوم، تتبلور دولة ساحة التحرير الشرعية التي تخط بدماء شهدائها مشروع دولة حقيقية من أجل العراق وشعبه.
العربي الجديد