تناور روسيا على جبهات عديدة، وتشتغل دبلوماسيتها بكامل طاقتها، وتسخر آلتها العسكرية جهوداً جبارة، والغرض عدم حدوث تغييرات ذات قيمة في سورية بعد الحرب، والاقتصار على إجراءات شكلية لا تؤثر على بقاء نظام الحكم المستبد، ولا تضمن تغيير أدائه لصالح واقع أفضل. تفعل روسيا ذلك، نتيجة تقدير عدم وجود مخاطر أو تهديدات ذات قيمة من شأنها التأثير على وجودها في سورية، أو التأثير على إستراتيجيتها، أقله في الزمنين، المنظور والمتوسط، وتركن في ذلك إلى حقيقة أنها استطاعت، عبر سنوات وجودها الأربع، تحييد جميع الأطراف الخارجية، بل ونسج علاقات معها تساعدها على الاستقرار والتحكّم في سورية مدى زمنيا لا بأس به.
وانطلاقاً من هذا التقدير، تسعى روسيا إلى هندسة العملية السياسية بالأسلوب الذي استطاعت من خلاله إخراج اللاعبين، الدوليين والإقليميين، من اللعبة، أو على الأقل حصر تأثيراتهم في أضيق مساحة ممكنة، ومن ثم إجبارهم على القبول بمخرجات العملية السياسية التي تديرها والتفاعل معها، وبذلك تكون روسيا قد حقّقت نصرها في سورية، واستعادت مكانتها الدولية من دون الاضطرار إلى إجراء تسويات مهمة في هذا الخصوص. ولكن إلى أي مدى تستطيع روسيا تحقيق هذا التصوّر، وما هي أدواتها لفعل ذلك؟
الخطأ الأول، في التقدير الروسي، أن سورية لا تقع في المجال الحيوي الروسي، مثل الشيشان
“روسيا تفتقد الأدوات اللازمة للنهوض بسورية من حالة الحرب إلى حالة السلم” وجورجيا، ما يقلص درجة الاهتمام الدولي بهما، لانتفاء المصالح ووجود نسبة عالية من المخاطر أمام قدر متدنٍ من الفرص، في حين تقع سورية وسط منطقة تتشابك فيها المصالح الإقليمية والدولية التي تفرض على اللاعبين المختلفين وضعها في جدول اهتماماتهم، الأمنية والمصلحية. وبالتالي، استمرار حالة اللا استقرار، وكذا بقاء الأوضاع فيها مفتوحةً على احتمالات عديدة، من شأنها دفع اللاعبين الآخرين إلى محاولة تغيير المعادلات التي أسستها روسيا، والبحث عن صيغ جديدة.
الخطأ الثاني، استمرار روسيا في المقاربة نفسها للحدث السوري، التي استخدمتها في مرحلة تصفية الوجود العسكري للمعارضة، والعمل على نقلها إلى المجال السياسي، والتفاوض من أجل الخروج من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلم، وهي مقاربةٌ معطوبةٌ قامت بالأساس على الانحياز لطرف معين في الحرب. ولم تُخف عداءها الأيديولوجي لطيف واسع من السوريين، إن لم يكن لأكثريتهم، وإذا كانت روسيا قد غلفت استراتيجيتها العسكرية بخطاب الحرب على الإرهاب الذي منحها قدراً واسعاً من الحرية للحرب على أغلبية السوريين، فإنه يستحيل عليها البناء على تلك الذريعة في مقاربتها السياسية وضمان النجاح فيها.
ما لم يفهمه الروس، ويصرّون على تجاهله، حقيقة أن الجزء الأكبر من نجاحهم تحقّق بفضل مساعدات الأطراف الأخرى، على الأقل لم يصنعوا عقباتٍ في طريق روسيا للسيطرة على سورية، بل إنهم زودوها بمفاتيح لأبوابٍ كثيرة مغلقة، حتى الأمم المتحدة نفسها زودتها بإحداثيات المستشفيات التي قصفتها طائراتها، وكانت أحد أسباب انهيار البيئات الحاضنة للفصائل. ولكن هذه الأوضاع التي حصلت بحسن نية، أو بسوء نية، لن تستمر، والمساعدة الإقليمية والدولية توقفت عند هذه الحدود، ربما لأن تلك الأطراف حققت مصالحها، لكن الأهم أن روسيا لم يعد لديها شيء تمنحه لتلك الأطراف لتحفيزهم على مساعدتها.
الخطأ الأكبر في الإستراتيجية الروسية افتقادها الأدوات اللازمة للنهوض بسورية من حالة الحرب إلى حالة السلم، فليس بين يدي روسيا سوى نظام يترنح بكامل هيكليته، قد يصلح لوضعه في فاترينة عرض، والقول للأطراف الدولية إنه نظام شرعي وصالح للحكم. وليس لدى أي طرف دولي مشكلة في التغاضي عن هذه الكذبة، ما دامت لا تنوي شراء المعروض. ولكن إن أرادت روسيا ترجمة هذه الكذبة في الواقع ستجد نفسها متورّطة بهيكل متصدّع ومنظومة متفتقة، لا يمكن رتقها وإصلاحها، ولا يمكنها بالتالي حمل مهمةٍ بحجم قيادة بلد محطم من الحرب إلى الإعمار.
لا يستطيع نظام الأسد توليد الديناميات اللازمة للدخول إلى مرحلة ما بعد الحرب. وفي ظل شحّ
“استمرار حالة اللا استقرار، وكذا بقاء الأوضاع فيها مفتوحةً على احتمالات عديدة، من شأنها دفع اللاعبين الآخرين إلى محاولة تغيير المعادلات التي أسستها روسيا”الموارد وندرتها، والأوضاع الاقتصادية المأساوية، تحتاج سورية إلى أفكار وقيم جديدة ومحفزّات قادرة على إنتشالها من هذا الواقع. ومع وجود نظام الأسد، بعقليته الفاسدة وافكاره المتخلفة، وفي ظل تراجع القيم الوطنية في سورية، يبدو مستحيلا عبور المرحلة الجديدة بهذه الأدوات. وحتى لو استطاعت روسيا إقناع بعض المانحين بالاستثمار في سورية، فلن يطول بهم المقام، ليكتشفوا أن حساباتهم خاطئة، لأنها لم تأخذ هذا المعطى بالاعتبار، وهو انحطاط البيئة السورية، في ظل حكم منظومة الأسد، وعدم قدرتها على إنجاز أي شيء حقيقي.
المشكلة أن روسيا وإيران دولتان عسكريتان ريعيتان وفاسدتان، لم تجرّبا الانخراط بعمليات تنموية كبيرة بحجم إعمار بلد مدمر، ولا تدركان أهمية البعدين، المعنوي والوطني، في إنجاز هذه العملية، والمناخ الذي تحتاجه عمليةٌ كهذه من حرية التفكير إلى الإحساس بالانتماء لهذا الواقع المُراد بناؤه.
لقد ضحّى نظام الأسد بالنخب التقنية والمتعلمة. لم يعرف كيف يستفيد منها زمن الحرب، والآن أصبحت أسهما في أرصدة ثروات الدول التي استقبلتها، ولا يوجد ما يشجعها على العودة. كما حطم أسس الوطنية السورية، وبذلك دمّر رأسمال رمزيا مهما كان يمكن أن يكون عاملاً مساعداً على تجاوز هذه المرحلة. وما لم يتم إصلاح هذه الأعطاب في الجسد السوري، وتغيير مكانيزمات المقاربة الروسية للحل، سيكون مستحيلاً، على روسيا، تحقيق أي نتيجة إيجابية لتدخّلها في سورية، ولن تنفعها مناوراتها وتكتيكاتها لتدجين المعارضة السورية وخداع اللاعبين الآخرين.
العربي الجديد