لن يتضح حجم المقتلة العراقية إلا بعد أن يهدأ الغبار، ولا يبدو ذلك وشيكا في العراق المهان، حتى لو جرى الإسراع بتسمية رئيس وزراء جديد خلفا للمستقيل عادل عبد المهدي، أو جرى الاتفاق البرلماني على إجراء انتخابات جديدة، فهذه الإجراءات كلها، وسواها مما يشبهها، لن تؤدي عمليا إلى شيء مختلف، سوى إعادة إنتاج المأزق نفسه، الذي تردى إليه العراق العزيز، منذ إسقاط نظام صدام حسين بقوة عصف الاحتلال الأمريكي.
وربما لا تكون من حاجة كبيرة للبحث عن السبب الجوهري، فليست أزمة العراق في تبديل وتقليب الصيغ المماطلة، ولا في تقديم قانون انتخابي جديد لمجلس النواب، ولا في تشكيل قضائي غير حزبي لمفوضية الانتخابات، فهذه كلها إيحاءات خادعة، لن تنجح في التخفي بعورات نظام السلطة الشائه البائس، ولن تحجب عن العين جوهر محنة العراق، كبلد عظيم فقد استقلاله الوطني، وخسر مهابته وكرامته، وسرقت ثرواته الهائلة من المنبع، وخضع لدستور شاذ، وضعه بول بريمر حاكم الاحتلال الأمريكي، وبغرض واحد وحيد، هو محو عروبة العراق بعد تهميشها، و»دسترة» عملية تفكيك العراق، وافتعال «فيدرالية» التفتيت، وتقسيم المجتمع إلى طوائف متناحرة، خصوصا في الوسط العربي الغالب، وتحويل الطوائف الدينية إلى «قوميات» متشاكسة طوال الوقت، يفني بعضها بعضا، وتدمر مدنها وقراها وحواضرها، وعلى نحو ما جرى باسم الحرب ضد إرهاب «داعش»، بإهلاك محافظات الشمال والغرب العربي «السني»، بالقصف الهمجي للطائرات الأمريكية، وباكتساح بري وحشي، نهضت به فصائل حشد «شيعي» ذات مرجعية إيرانية، فقد صاحبت الاحتلال الأمريكي وتبعته، سيادة الهيمنة الإيرانية، التي أفسحوا لها المجال، واحتلت الفراغ المخيف الذي تبع سقوط سلطة العراق الوطنية، وهكذا حدث التكامل الوظيفي بالقصد أو بدونه، بين مضاعفات الاحتلال الأمريكي ورغبات الهيمنة الإيرانية.
وتوارت أبجديات الاستقلال الوطني، وتفكك نسيج الوطنية العراقية الجامعة، وانكسر العمود الفقري العروبي الطابع للتكوين العراقي، ودارت حروب التهجير والفرز الطائفي بين سنة العراق وشيعته، وهو ما أدرك خطره غريزيا، جمهور المنتفضين الشيعة، وقد توالت دورات ثوراتهم الغاضبة، إلى أن بلغت ذراها في الانتفاضة الأخيرة المتصلة، التي يتدافع شبابها إلى حومة الموت والاستشهاد، طلبا لاستعادة عروبة العراق، وتحريره من ربقة المهانة المزدوجة، التي كرسها الاحتلال الأمريكي والهيمنة الإيرانية، وبتصميم بطولي ظاهر عند المنتفضين، يريد استعادة العراق للعراقيين أولا، فلا قيمة لأي حديث عن الديمقراطية في بلد محتل ومهان، فالديمقراطية ليست وسيلة إلهاء وتعمية، بل وسيلة لبناء سلطة الشعب الحر، وليس لصناعة «حكومات دمى»، يتلاعب بها المحتلون والمهيمنون.
محنة العراق وطنية شاملة، وليست في الإجراءات والتفاصيل، وضياع استقلال الوطن العراقي هو المأساة الأعظم، التي مهدت، وقادت إلى فوضى شاملة، وإلى تحكم عصابات السلاح والسرقة والنهب بالوكالة وبالأصالة، وهو ما يفسر ضراوة القتل، الذي لجأت إليه العصابات إياها، حتى لو بدت في صورة أحزاب دينية، أو فصائل حشد، تدعي نسبا مزورا لشيعة الإمام علي، بينما هي شيعة الاحتلال والهيمنة، وهي أقرب لهمجية جيش يزيد، منها إلى بطولة وعذاب ورمزية الإمام الحسين، فشيعة العراق المنتفضون اليوم وغدا، يستردون حقائق هويتهم، وكان الشيعة هم العنصر المرجح لبناء دولة العراق العربي الحديث قبل نحو مئة سنة، وهم الآن ينهضون بالدور نفسه ثانية، وإن بطرق تختلف، وبثمن أفدح بمراحل، وبقوافل تلو القوافل من الشهداء، تحيي بطولة الإمام الحسين سبط النبي العربي، وتقدم من حر دمها، ودم أنبل شباب العراق، مهرا مستحقا للنصر في «كربلاء» الوطن العراقي هذه المرة، وهو ما يثير جنون الطائفيين، من ذوي المرجعيات غير الوطنية، ويدفعهم لخوض حرب مصائر ضروس، لن ينتصر فيها سوى الشعب العراقي العربي بسنته وشيعته، مهما استطالت الأيام والمحن، ومهما بدا النصر النهائي بعيدا، ومهما وضعت في طريقه الألغام وشراك الخداع، ومهما اتسعت وتعمقت بحور الدم والألم.
المطلوب في العراق اليوم، ليس مجرد ترقيعات أو إصلاحات جزئية، بل استعادة العراق نفسه، والتحرر الهيمنة الأجنبية
لقد تلاعبوا كثيرا وطويلا بما سموه «مظلومية الشيعة» في العراق، وتلاعب آخرون في المقابل بما سموه «مظلومية السنة»، بينما «مظلومية العراق» هي الأصل، ومحو دولته وعروبته كانت السبيل الأقصر إلى المحنة الكبرى، عبر حل الجيش الوطني العراقي بقرار بول بريمر، وهكذا هوى عمود الخيمة، ثم «قانون اجتثاث البعث»، الذي جرّد العراق من ثروة خبراته الإدارية والعلمية والفنية الحديثة المتراكمة، ثم ترك العراق نهبا لعصابات سرقة احترافية، ولطاعون حكم من يصفون أنفسهم بأحزاب التيار الإسلامي، بينما هؤلاء، مجرد «تيار لصوصي»، يفتقر إلى أي مناعة وطنية أو أخلاقية، وحول العراق الأغني بمزيج موارده البترولية والمائية، إلى مكان مقفر بائس، تحطمت فيه كل بنى الدولة، وانحطت فيه الخدمات الحياتية الأساسية إلى حد الانعدام، مما كان سببا مباشرا في انتفاضات متوالية خلال الأعوام الأخيرة، سرعان ما أدرك جمهورها جوهر العلة والمحنة، ورفع شعاره الموحي «حلمنا وطن»، فالمطلوب في العراق اليوم، ليس مجرد ترقيعات أو إصلاحات جزئية، بل استعادة العراق نفسه، واسترداد الاستقلال الوطني، والتحرر من كافة صنوف الهيمنة الأجنبية، وتأسيس دولة العراق الجديدة، ومحو مشاهد العبث، فلا يعقل أن يكون العراق عربيا بغالب سكانه، ثم يكون رئيس الجمهورية دائما كرديا، ولا يعقل أن يكون حكامه من ذوي التابعية الإيرانية، ولا ممن جاءوا على ظهور الدبابات الأمريكية، ولا يعقل أن تتوالى دورات انتخاب مريبة، لا تفرز أبدا، سوى محاصصات طائفية وعرقية فاسدة، تشتري فيها المناصب، وتوزع بالتساوم بين أتباع الاحتلال الأمريكي وجنود الهيمنة الإيرانية، ويتاح لكل الأطراف حق النهب الفلكي، واستتباع جيوش من اللصوص الصغار، ودفع العراق إلى وضع كابوسي مرعب، لا تعلو فيه كلمة على صوت القتل والحرق والتخريب والتدمير، وبدعوى تنفيذ دستور ساقط، لم يكتبه العراقيون بحرية، ولا يتيح خلق سلطة وطنية ديمقراطية بأي معنى.
مجددا، العراق اليوم يحتاج إلى كسب استقلاله الوطني أولا، وإلى دستور جديد بالكامل، يقوم على مبدأ الدولة البسيطة المندمجة، لا على أوهام التفتيت الفيدرالي، حتى إن تبقت سلطة حكم ذاتي للأكراد في الشمال، لا تخرجهم من ملة الدولة العراقية الموحدة، ولا تحول مطامح الأكراد إلى سوق للسرقات العامة، ولا تدعم أي ميول انفصالية عن سلطة بغداد، التي قد يفيدها التحول إلى النظام الرئاسي المنتخب شعبيا، بعيدا عن أمراض النظام البرلماني وأحزابه وتقلباته، وحتى لو جرى الإبقاء على النظام البرلماني، فلا بد من البحث عن طريقة أخرى لاختيار رئيس الوزراء، بانتخابه شعبيا من بين عدة مرشحين، لإنهاء المحاصصة المهلكة، وكف يد الأجانب عن التدخل، وتقوية مركز السلطة الوطنية، وتلك فكرة تلقى هوى عند لاعبين أساسيين، حتى في المدار الشيعي الحزبي، وحبذها مقتدى الصدر زعيم كتلة «سائرون»، الأكبر عددا في تشكيل البرلمان الحالي، وهو الأكثر تعاطفا بين الحزبيين مع الانتفاضة الأخيرة، والأوسع انفتاحا على التيارات المدنية، وقد أعلن أنه لن يشارك في مشاورات تشكيل حكومة جديدة، وأنه يفضل عرض المرشحين الطامحين لرئاسة الوزراء في انتخابات عامة، ورغم الملاحظات السلبية على سلوك الصدر وتناقضاته، فإن الفكرة تبدو جديرة بالنظر، ولا يمكن التقدم إليها في سياق دستور الاحتلال القائم، ومع استمرار حظر واجتثاث «حزب البعث» بالذات، الذي آن الأوان لعودته إلى حياة سياسية ديمقراطية سلمية، مع نقد ذاتي شامل لأساليب ديكتاتورية مضى زمانها، فحزب البعث وطني عروبي جامع تاريخيا، وقائده المؤسس في العراق فؤاد الركابي، كان شيعيا، ولقي حتفه في سجون صدام حسين، بعد أن كان الركابي تحول من البعثية إلى الناصرية أواسط ستينيات القرن العشرين، وربما يكون الأهم من ذلك كله، أن يقر دستور إعادة تأسيس العراق، مبدأ التجنيد الوطني العام، واستعادة الجيش الوطني الجامع، مع حل وتصفية كل التشكيلات والعصابات الطائفية المسلحة، فجيش التجنيد الإجباري العام، هو المزرعة الأولى لإعادة غرس وتنمية وتسييد الهوية الوطنية العراقية الجامعة .
والأمر بعد ذلك وقبله، يعود لأحلام المنتفضين العراقيين، ولهم وحدهم حق النقض والإبرام، فلا يصح لأحد أن يزايد على الدماء الزكية، التي بذلت سخية على رجاء عودة العراق لأهله الأكرمين.
القدس العربي