يتساءل الكثيرون -بمن في ذلك الروس وسكان الدول التي كانت في السابق تابعة للاتحاد السوفياتي- عما إذا كانت روسيا ستصبح قوة اقتصادية عظمى، ولا سيما أن مصيرهم يعتمد على المسار الذي اختارته موسكو وقوتها الاقتصادية.
وفي تقرير نشر بموقع “إياركس” الروسي، قال الصحفي الروسي أحمد بورخانوف إن قضية التنمية الاقتصادية بالنسبة لروسيا اكتسبت أهمية أكثر من أي وقت مضى، ولا سيما أن انتظار الشعب لحدوث تغييرات اقتصادية قد طال.
لكن روسيا -التي تستحوذ على أكبر مساحة في العالم، فضلا عن مصادر الطاقة الهائلة والموارد الإستراتيجية- لا تحتل مكانة مشرفة في العالم من حيث نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، يضيف الكاتب.
وأشار الكاتب إلى أن روسيا لا تزال بعيدة عن الاقتصادات المتقدمة في العالم رغم استرجاعها بعضا من قوتها ونفوذها.
ووفقا لمجموعة من المؤشرات، تحتل روسيا مراتب متوسطة من حيث التقدم الاقتصادي، وهو ما لا يتوافق مع ثقلها الجغرافي السياسي في العالم.
وأشار الكاتب إلى أن معظم الروس يلقون باللوم على الحكومة الليبرالية لما تعانيه البلاد من ركود اقتصادي، غير أن الأسباب أعمق بكثير، ولن يتغير الوضع حتى في ظل تغيير الحكومة.
وفي الواقع -يقول الكاتب- تربط النخب الليبرالية مشاكل روسيا الاقتصادية بطموحاتها المفرطة في السياسة الخارجية التي تنضاف إلى عواقب هزيمتها في الحرب الباردة التي تعد من المشاكل التي أطاحت بالاقتصاد في هذا البلد.
النظام المالي العالمي الحالي يعيق النمو الاقتصادي الروسي لكن من الصعب تغيير هذا الوضع (رويترز)
النظام المالي العالمي الحالي يعيق النمو الاقتصادي الروسي لكن من الصعب تغيير هذا الوضع (رويترز)
نظام مالي عالمي
مما لا شك فيه أن النظام المالي العالمي الحالي يعيق النمو الاقتصادي الروسي، لكن يصعب في الوقت الحالي تغيير هذا الوضع بسبب الارتباط القوي للاقتصاد الروسي بالنظام المالي العالمي.
علاوة على ذلك، يعتمد حجم اقتصاد أي بلد بغض النظر عن خصائصه في جميع الأوقات على قدرات السوق.
ومن الواضح أن قدرة السوق الروسية وبلدان رابطة الدول المستقلة -مع كل إمكانات توسعها- ليست كافية لاختراق الاقتصاد العالمي، ولا تستطيع صناعات التكنولوجيا المتقدمة بلوغ أهدافها بالاعتماد فقط على السوق المحلي والاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي، كما يعتقد الكاتب.
وأوضح الكاتب أن روسيا كحضارة مستقلة وبلد كبير تقف ضد سيطرة أي إمبراطورية على العالم، ولا يمكن تغيير هذا المعطى بأي شكل من الأشكال دون تدميرها، لذلك تواترت عليها العديد من الحروب، مما أدى إلى تفككها.
وعلى الرغم من الانتصارات العسكرية التي حققتها روسيا فإن الغرب الجماعي -الذي سيطر على التجارة والتمويل العالميين- تسبب في العديد من المناسبات في إلحاق هزيمة ساحقة بها، مما كبدها خسائر جسيمة.
وأورد الكاتب أن سقوط الستار الحديدي قبل حدوث توسع في سوق المبيعات العالمية يعد من أحد الأسباب الرئيسية لانهيار الاتحاد السوفياتي، وبالتالي فإن اعتماد المقترحات التي يقدمها الخبراء غير الليبراليين، والاستناد إلى أساليب وتجارب الاتحاد السوفياتي سابقا أو الاستعانة بالتجربة الصينية وغيرها من الخطط لن يجعل من روسيا قوة اقتصادية عظمى.
وفي حال أدت التجربة السوفياتية إلى الانطواء الاقتصادي فإن التجربة الصينية في المجال الاقتصادي -التي تكتفي بالاضطلاع بدور منتج سلع- لا تلبي الدور الذي تطمح له روسيا.
وعموما، تستطيع روسيا حل المشاكل الاقتصادية التي تعترضها على المدى البعيد، وذلك ما يدفعها في الوقت الراهن إلى الوجود في المناطق الرئيسية في العالم، يقول الكاتب.
تقاطع مصالح روسيا وأميركا ببعض المناطق من العالم
أوضح الكاتب أن الجميع على دراية بأن الدولار يسرع عملية التضخم في جميع أنحاء العالم، مما يلحق ضررا بدول العالم الثالث وروسيا على حد سواء.
وتحتل بلدان العالم الغربي واليابان وكوريا الجنوبية وكذلك الصين حصة كبيرة في السوق العالمي للمنتجات النهائية، مما يمكنها من تعويض تضخم الدولار عن طريق عائدات التصدير.
بالمقابل، تعاني الولايات المتحدة من عجز في الميزان التجاري وارتفاع في الدين العام، وهو ما يتعارض مع هيمنتها العالمية.
ويعتقد الكاتب أن الحرب التجارية التي شنتها الولايات المتحدة ضد الصين لن يكون فيها منتصر، وأنه في ظل هذه الظروف سيؤدي انهيار النظام المالي الأميركي إلى انهيار جميع الاقتصادات المتقدمة في العالم بشكل أو بآخر، في حين ستستفيد روسيا من ذلك.
وأشار الكاتب إلى أن رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في التصالح مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين تخدم مصالح الطرفين، غير أن الوقت يخدم صالح روسيا، في وقت تؤدي معارضة الديمقراطيين إلى تفاقم الموقف التفاوضي للولايات المتحدة يوما بعد يوم.
ويرى الكاتب أن المزايا الحالية تمنح لروسيا -في مثلث الجغرافيا السياسية- فرصة تاريخية لحل مشاكلها الاقتصادية إلى أقصى حد، لكن في ظل هذه المعركة الجيوسياسية فإن المخاطر تحيط بروسيا من كل جانب، لذلك يتعين على الرئيس الروسي توخي الحذر لتجنب الهزيمة.
ماذا عن الشرق الأوسط وأفريقيا؟
في الحقيقة، إن الانتصار الجيوسياسي لروسيا هو العامل الوحيد الذي يمهد الطريق أمام سيطرتها على أسواق مبيعات واسعة في مناطق مختلفة من العالم، مما يعطي قوة دفع لتحقيق انفراج اقتصادي حقيقي.
لقد تمكنت روسيا -وفق الكاتب- من ضمان وجودها العسكري بشكل دائم في سوريا، وبذلك ستحاول اغتنام الفرصة لتحويل قوتها العسكرية إلى قوة اقتصادية انطلاقا من الشرق الأوسط، لتصل إلى كامل أفريقيا في وقت لاحق.
أما بالنسبة للمنافسة العادلة في السوق العالمي فإن وجود قوة عسكرية في منطقة ما يعود بفوائد أكبر من عقد اتفاقيات تجارية.
الكاتب أكد أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يحتكران صناعة الطائرات المدنية، في حين تسيطر كل من الصين وكوريا الجنوبية واليابان على سوق بناء السفن، وتبلغ حصة هذه الدول 80%، مما لا يترك مجالا لدخول منافسين جدد.
لكن ذلك لا يعني -بحسب الكاتب- عجز روسيا عن صناعة السفن وتطويرها، وصناعة الطائرات مثل إيرباص وبوينغ، خاصة أنها دولة تملك تكنولوجيا عالية وتختص في بناء المركبات الفضائية وكاسحات الجليد بالطاقة النووية وتملك محطة طاقة نووية عائمة.
ويشير الكاتب إلى أن روسيا تدرس إمكانية إنتاج نسخة مدنية من طائرات “توبوليف تي يو160″، و”إيركوت أم أس21″، وهي جيل جديد من الطائرات بعيدة المدى تتفوق على نظيراتها الأجنبية.
ويعمل منافسو روسيا على إثارة بعض المشاكل الاقتصادية أمامها عن طريق إغلاق جميع الأسواق الواسعة والغنية أمام منتجاتها، فضلا عن خضوع الأسواق الخارجية لحراسة مشددة من قبل مالكيها الحاليين، كما يرى الكاتب.
قوة بمجال الطاقة
أشار الكاتب إلى أن روسيا قوة عظمى في المجال العسكري والطاقة، مما يتيح أمامها مجموعة من الفرص لتصبح قوة عظمى اقتصادية في المستقبل القريب عن طريق احتلالها المرتبة الثالثة عالميا، ولا سيما أنها تعمل اليوم على استثمار مبالغ ضخمة في البنية التحتية والمشاريع الاجتماعية وغيرها من المشاريع المهمة، وتحقيق التوافق بين المصالح التجارية والمصالح السيادية.
وأفاد الكاتب بأن العالم الغربي يراقب بقلق تحول روسيا “العنقاء” إلى قوة عظمى دون مساهمة أطراف أخرى، واستمرارها في الإطاحة بالولايات المتحدة في الشرق الأوسط وبيعها أسلحة عالية التقنية، وبناء محطات طاقة نووية في جميع أنحاء العالم، ومد خطوط أنابيب الغاز، مثل “نورث ستريم”، و”السيل والتركي”، و”قوة سيبيريا”.
ويمكن لروسيا تعزيز وضعها الاقتصادي عن طريق تخفيض الأسعار المحلية للبنزين ومجموعة من المواد الأخرى، مما سيزيد بشكل حاد القدرة التنافسية للمصنعين الروس والطلب الاستهلاكي للسكان في الوقت نفسه، وفق الكاتب.
الجزيرة