تتسع حدة التباينات بين المرجعية الدينية في النجف من جهة وإيران من جهة أخرى، مع كل أسبوع يمر من عمر انتفاضة العراقيين، وهو ما يضع القوى والأحزاب الدائرة في فلك إيران، في موقف غير مسبوق، ترجمته حالة الفوضى السياسية خلال الأيام الأخيرة في بغداد. ويأتي ذلك في وقت تتواصل التظاهرات في العراق، إذ احتشد عشرات الآلاف في الميادين والساحات العامة والشوارع الرئيسية في بغداد وجنوب ووسط العراق أمس، استجابة لدعوات أطلقها ناشطون عراقيون على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الساعات الماضية. وأكد المحتجون تمسكهم بمطالبهم الأساسية التي رفعوها منذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وانتشرت قوات الأمن العراقية في محيط مناطق التظاهرات من دون تسجيل حوادث.
سياسياً، تغير موقف تحالف “الفتح” والفصائل المسلحة، التي أعلنت في أكثر من مناسبة بأن مطلب الانتخابات المبكرة جزء من المؤامرة “الصهيونية والأميركية” على العراق، عقب دعوة المرجع الديني علي السيستاني بشكل صريح لانتخابات مبكرة، وبقانون انتخابات منصف وواضح، وأخيراً دعوته لحكومة “غير جدلية” لقيادة المرحلة الحالية الانتقالية، وهو ما مثّل نسفاً جديداً لـ”حراك الحجي والشيخ”، في إشارة إلى قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني، والمسؤول عن الملف العراقي في “حزب الله” اللبناني محمد كوثراني، اللذين يتحركان باتجاه تسمية “رئيس وزراء بهوى غير أميركي”، وفقاً لقيادي بارز في تحالف “الفتح”.
”
أكد السيستاني أن الشعب مصدر السلطات ومنه تستمد شرعيتها
“وقال القيادي نفسه لـ”العربي الجديد”، إن “مقربين من المرجع علي السيستاني نقلوا رسائل عدة، خلال الأيام الماضية، حول ضرورة تسمية رئيس وزراء قوي وبسيرة نظيفة، وأن يكون وجهاً جديداً لا يستفز المتظاهرين، ويُترك له خيار تشكيل حكومته لإدارة البلاد في المرحلة الحالية. كما حذرت الرسائل من مغبة استمرار اغتيال الناشطين في التظاهرات، خصوصاً في كربلاء والنجف، واعتبرتها (المرجعية) أنها تمثل عدم احترام لقدسية المدينتين وكرامة الراقدين فيها، من قبل جهات سياسية وأحزاب وفصائل مسلحة”. وأكد القيادي في “تحالف الفتح” أن “القوى السياسية دخلت في مأزق جديد، بعد خطبة المرجعية والتي عقّدت مشهد اختيار رئيس الوزراء المقبل، خصوصاً مع تواصل الضغط الإيراني من قبل سليماني لفرض أسماء معينة”. وتوقع أن “يكلف (الرئيس العراقي) برهم صالح مرشحاً لرئاسة الحكومة المقبلة المؤقتة، بدون الرجوع إلى القوى السياسية”.
وفي خطبة اعتبرت الأكثر وضوحاً في ما يتعلق بالأزمة الراهنة بين القوى السياسية ومأزق تشكيل الحكومة والتظاهرات التي تعم مدن جنوب ووسط البلاد وبغداد، نقل ممثل المرجع الديني عبد المهدي الكربلائي عن السيستاني قوله إن “الشعب مصدر السلطات ومنه تستمد شرعيتها، وبناءً على ذلك فإن أقرب الطرق وأسلمها للخروج من الأزمة الراهنة وتفادي الذهاب إلى المجهول أو الفوضى أو الاقتتال الداخلي هو الرجوع إلى الشعب بإجراء انتخابات مبكرة، بعد تشريع قانون منصف لها، وتشكيل مفوضية مستقلة لإجرائها، ووضع آلية مراقبة فاعلة على جميع مراحل عملها تسمح باستعادة الثقة بالعملية الانتخابية”. وانتقد عرقلة إقرار قانون الانتخابات وتفاقم الخلافات بشأن بعض مواده المهمة، مشدداً على ضرورة الإسراع في إقراره بشكل ينسجم مع تطلعات الناخبين ويقربهم من ممثليهم ويراعي حرمة الأصوات ولا يسمح بالالتفاف عليها.
وفي دعوة اعتبرت بمثابة تأكيد على عدم تعويل مرجعية النجف على الأحزاب الحالية في إصلاح الوضع العراقي، نقل الكربلائي عن السيستاني قوله إنه “إذا تم إقرار قانون الانتخابات على الوجه المقبول، يأتي دور النخب الفكرية والكفاءات الوطنية الراغبة في العمل السياسي لتنظم صفوفها وتعد برامجها للنهوض بالبلد وحلّ مشاكله المتفاقمة”، معبراً عن أمله “ألا يتأخر طويلاً تشكيل الحكومة الجديدة، التي لا بد من أن تكون حكومة غير جدلية، وتتمكن من استعادة هيبة الدولة وتهدئة الأوضاع، وإجراء الانتخابات المقبلة في أجواء مطمئنة بعيدة عن التأثيرات الجانبية للمال أو السلاح غير القانوني وعن التدخلات الخارجية”.
وأكدت مصادر في البرلمان العراقي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “المهلة الدستورية، التي تم تمديدها بقرار عرفي من الرئاسة العراقية وفقاً لتفسير دستوري جديد، باعتبار الجمعة والسبت ليسا ضمن المدد الدستورية، ستنتهي (غداً) الأحد”. ووفقاً لبرلماني عن تحالف “النصر”، الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، فإن “الرئيس العراقي بانتظار رد المحكمة الاتحادية على استفسار يستوضح فيه إمكانية ترشيح رئيس للوزراء من خارج الكتلة الأكبر بالاعتماد على تخويل 174 نائباً وصل إليه، وفي حال وصل الجواب منها السبت أو صباح الأحد، وكان إيجابيا فإنه قد يتقدم بمرشح، حتى مع عدم ضمان قبوله في البرلمان، لكنه سيحاول الالتزام هذه المرة بالمهلة التي مددها لنفسه”.
”
المرجعية ركزت على قضية اختيار مفكرين ونخب لقيادة المرحلة المقبلة
“واعتبر العضو في الحزب الشيوعي، علي اللامي، أن الذهاب إلى انتخابات مُبكرة أمر مسلّم به. وقال إن “الإيرانيين هم الطرف الوحيد في المعادلة الذين ما يزالون مصرين على عدم محاولة فهم المتغيرات الحالية، ويتعاملون مع الأزمة على أنها نقاط في مرمى واشنطن لا أكثر، من خلال ربط ما يجري بأنه مؤامرة”، مؤكداً أن “الساعات الـ48 المقبلة ستكون مهمة للغاية، سواء على مستوى اختيار رئيس وزراء مؤقت أو إكمال التصويت على قانون الانتخابات المقرر الاثنين”. بدوره، كشف القيادي في تحالف القوى العراقية حيدر الملا، لـ”العربي الجديد”، عن أن “إيران ضغطت الأربعاء الماضي على صالح من أجل تكليف مرشحها قصي السهيل، لكن رسالة مرجعية النجف جعلتها تتراجع”. وأضاف أن “خطبة المرجعية كانت واضحة جداً، فهي أكدت أن الشعب مصدر السلطات وضرورة وجود حكومة غير جدلية، بمعنى فشل من يفكر بترشيح شخصية فاسدة”.
إلى ذلك، قال قصي الياسري، النائب عن تحالف “سائرون” المدعوم من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، في اتصال هاتفي مع “العربي الجديد”، إن “المشاورات التي تجري حالياً عبارة عن ضغوط على صالح من أجل تكليف رئيس وزراء معين”، معتبراً أن “خطبة السيستاني جاءت برسالة مفهومة للقوى السياسية برفضها أي تدخلات أو ضغوط في اختيار رئيس الحكومة”. واعتبر رئيس مركز “التفكير السياسي” في بغداد إحسان الشمري أن “السيستاني، ومن خلال خطبة الجمعة، أعلن براءته بشكل كامل من الطبقة السياسية، بطبيعة الدفع باتجاه الانتخابات المبكرة، من أجل إنهاء المعادلة السياسية الخاطئة، التي جاءت بعدة طرق، ونتيجة رعاية إقليمية تحديداً”. وأكد أن “المرجعية ركزت على قضية اختيار مفكرين ونخب لقيادة المرحلة المقبلة، وهذا دليل على عدم ثقتها وإعلان البراءة من الطبقة السياسية الحالية، التي تسيطر على السلطة منذ 16 سنة”. وأضاف أن “المرجعية وجهت رسالة إلى القوى السياسية، التي تملتك أجنحة مسلحة، حين أشارت إلى أن الانتخابات يجب أن تكون بعيدة عن الأجنحة المسلحة، وهذا يضع الفصائل المسلحة خارج إطار المنافسة السياسية”.
العربي الجديد