تنافست أميركا وإيران خلال 15 سنة على النفوذ في العراق ولبنان، لكن منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي دخلت هذه الحرب الباردة مرحلة جديدة، مع بروز احتجاجات شعبية في هذين البلدين ترفض عقوداً من الفساد المستشري والبطالة وانعدام الخدمات الرئيسية والشلل الحكومي، الذي زاد خلال السنوات الأخيرة، نتيجة التأزم المستجد في العلاقة بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والنظام الإيراني. ولدى واشنطن وطهران الآن مقاربة مختلفة حيال هذه الانتفاضات الشعبية، لكن لا يزال لديهما رغبة بعدم المواجهة أو التخلي عن حلفائهما في بغداد وبيروت.
هناك تشابه بين ما يشهده العراق ولبنان في ظل جيل جديد مُحبط، ينتفض على أنظمة فاسدة غارقة في الاقتتال السياسي الداخلي، الذي تغذيه الخصومة الأميركية-الإيرانية. عقوبات إدارة ترامب على النظام الإيراني وحلفائه، واعتماد طهران على القوة لتقدم مصالحها، يشكلان عقبة رئيسية أمام سياسات اقتصادية سليمة في بغداد وبيروت. ونتيجة هذا الضغط الشعبي هناك الآن فراغ حكومي سعت إيران لمنعه في البلدين، لكنها لم تنجح بذلك، وبالتالي يسعى حلفاء طهران إلى استعادة صيغة تقاسم النفوذ التي كانت قائمة قبل هذه الاحتجاجات الشعبية، لكن المتظاهرين يرفضون هذه المعادلة.
”
لم يتردد حلفاء إيران في العراق في الحديث عن ضرورة قمع المتظاهرين
”
حاول كل من المسؤولين الأميركيين والإيرانيين خلال الأسابيع الماضية الترويج لروايتهما عن هذه التظاهرات بما يخدم مصالحهما. النظام الإيراني يلوم إدارة ترامب، على الأقل، باستغلال هذه التظاهرات، إن لم يكن تحريكها، فيما تفسر إدارة ترامب هذه التظاهرات على أنها مجرد تحدٍّ للنفوذ الإيراني. المرشد الإيراني علي خامنئي نصح السلطات العراقية واللبنانية في 30 أكتوبر الماضي بـ”معالجة انعدام الأمن والاضطراب اللذين أوجدتهما الولايات المتحدة والنظام الصهيوني وبعض الدول الغربية وأموال بعض الدول الرجعية”، لكنه أشار، في الوقت ذاته في تصريحات منفصلة، إلى أن “لدى شعبي العراق ولبنان بعض المطالب المشروعة، لكن يجب أن يعلموا أن هذه المطالب لا يمكن أن تتحقق إلا في الإطار القانوني لبلدانهم”. من جهته، قال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في 5 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إن الشعبين العراقي واللبناني “يكتشفان أن أعلى صادرات النظام الإيراني هو الفساد متنكراً بشكل سيئ كثورة”. كما أشار بومبيو، في 2 ديسمبر/كانون الأول الحالي، إلى أن استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي حصلت “لأن الناس كانت تطالب بالحرية، وقد قتلت القوات الأمنية العشرات من الأشخاص. هذا يعود في جزء كبير منه إلى النفوذ الإيراني”. كما تطرق إلى لبنان قائلاً “يريدون إخراج حزب الله وإيران من بلدهم ومن نظامهم كقوة عنفية وقمعية”.
الفوارق بين العراق ولبنان
هذه التصريحات للمسؤولين الأميركيين والإيرانيين تتم ترجمتها عملياً عبر إدارة استخدام العنف والتفاوض السياسي، في وقت أصبح فيه واضحاً أن الأولوية للطرفين هي العراق وليس لبنان. وشهد العراق استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين في ظل تشجيع إيران لحلفائها على التمسك بالوضع الراهن، وهذا انعكس ميدانياً أكثر من 460 قتيلاً و20 الف جريح بين المتظاهرين، مقارنة مع ثلاثة قتلى في لبنان حتى الآن. ولم يتردد حلفاء إيران في العراق في الحديث عن ضرورة قمع المتظاهرين، لا سيما الفصائل المنضوية في الحشد الشعبي، التي أعلن رئيسها فالح الفياض الاستعداد للتدخل ومنع أي “انقلاب أو تمرد”، إذا طلبت الحكومة. وبرزت في العراق ولبنان مجموعات شبه عسكرية، مسلحة وغير مسلحة، تورطت في قمع المتظاهرين. لكن بشكل عام كان هناك إدارة إيرانية أكثر مباشرة لما يحصل في العراق مقارنة مع الحيثية التي يتمتع بها “حزب الله” في التعامل مع الانتفاضة في لبنان.
أما حلفاء الولايات المتحدة فإنهم يعطون انطباع أنهم أقرب إلى تأييد مطالب المتظاهرين، مع العلم أنهم جزء من الطبقة السياسية التي أوصلت العراق ولبنان إلى هذه المرحلة الراهنة. في البداية كانت إدارة ترامب مترددة في الدخول على خط هذه التظاهرات، لكن وتيرة تدخلها زادت في الفترة الأخيرة. وتستخدم واشنطن ثلاث أدوات رئيسية في هذا السياق: ورقة المساعدات الأميركية واتخاذ مواقف علنية وفرض عقوبات، لكن كلها تبقى سياسات ذات أثر محدود في ظل التحولات السريعة التي تحصل على الأرض. ففي 6 ديسمبر/كانون الأول الحالي، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على شخصيات في الحشد الشعبي، منها الأمين العام لحركة “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي، تبعها في 13 ديسمبر عقوبات على رجال أعمال لبنانيين، يعتقد أنهم من كبار ممولي “حزب الله”.
”
تحاول إيران الحفاظ على التوازنات الراهنة في العراق ولبنان عبر إعادة إنتاج التفاهمات التي كانت قائمة قبل الانتفاضات الشعبية
”
كما أدى مسعى السيناتور كريس مورفي إلى الإفراج عن 105 ملايين دولار من المساعدات العسكرية الأميركية إلى الجيش اللبناني، وتدخل بومبيو للإفراج أيضاً عن 115 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية إلى لبنان. وهناك وجهتا نظر داخل إدارة ترامب حول هذه القضية: الأولى تسود في البيت الأبيض، وتربط المساعدات الأميركية بتلبية الدولة اللبنانية المطالب الأميركية المتعلقة بـ”حزب الله” وإطلاق سراح المسؤول السابق في “جيش لحد” والمواطن الأميركي عامر فاخوري، الموقوف في لبنان منذ سبتمبر/أيلول الماضي، والثانية تسود في وزارتي الخارجية والدفاع توصي باستخدام المساعدات كوسيلة ضغط بدل الانسحاب الأميركي في مرحلة مفصلية في تاريخ لبنان. وفي حال العراق، ربطت إدارة ترامب توسيع المساعدات الأميركية بتشكيل “حكومة ذات مصداقية تهتم بخدمة الشعب وليس الأحزاب السياسية أو بلدان أخرى”. وبغض النظر عن نوايا إدارة ترامب في استغلال ما يحدث من تطورات، فقد ساهمت المساعدات العسكرية الأميركية، خلال العقد الأخير، في تسهيل قدرة الجيشين العراقي واللبناني على الحياد النسبي في المواجهة بين المتظاهرين والطبقة السياسية، على الرغم من أن تماسك الجيش اللبناني كان أكثر وضوحاً نظراً لاستقلالية قيادته عن الطبقة الحاكمة، مقارنة مع الجيش العراقي الذي يخضع لسلطة وزارة الدفاع. وحتى القوى الأمنية التي تحصل على مساعدات أميركية استخدمت القوة المفرطة ضد المتظاهرين في العراق ولبنان نهاية الأسبوع الماضي في محاولة لتمرير الأسماء التي تطرحها سلطات البلدين لتولي رئاسة الحكومة في بغداد وبيروت، والتي يرى المتظاهرون أنها مثيرة للجدل، ومن غير الإخصائيين أو التكنوقراط.
الانتخابات البرلمانية التي حصلت في العراق ولبنان في مايو/أيار 2018 لم تعط أكثرية واضحة لأي طرف أو تحالف سياسي. لكن تحدي رئيس الحكومة العراقية المستقيل عادل عبد المهدي كان أكبر من نظيره المستقيل سعد الحريري، فالأول وصل إلى السلطة في ذروة التصادم الأميركي-الإيراني حول الملف النووي، في أكتوبر 2018، بينما الثاني أوصلته تسوية سياسية إلى رئاسة الحكومة في العام 2016 قبل توتر العلاقة بين واشنطن وطهران. وسقطت حكومة رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي عندما عجز عن إدارة هذا التوتر الأميركي-الإيراني أو عندما أعطى أفضلية للأميركيين، لكن في ظل حكومة عبد المهدي وقع العراق اتفاقيات مع إيران، كانت لصالح طهران، لمساعدتها على تجاوز الضغوط الأميركية لتصفير صادراتها النفطية. وتحاول إيران الحفاظ على التوازنات الراهنة في العراق ولبنان عبر إعادة إنتاج التفاهمات التي كانت قائمة قبل الانتفاضات الشعبية، بطريقة ترضي الحريري في لبنان وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في العراق، لكن المتظاهرين أصبحوا قوة رئيسية يحسب لها حساب ولديها توقعاتها من الحكم.
مصير التفاوض الأميركي-الإيراني
في حين ظل لبنان مستقراً نسبياً من الناحية الأمنية خلال الشهرين الأخيرين، شهد العراق جولات من العنف تحركها جزئياً تداعيات التنافس الأميركي-الإيراني. وتم إحراق القنصلية الإيرانية جنوب العراق ثلاث مرات وسقطت خمسة صواريخ، في 3 ديسمبر، على قاعدة “عين الأسد” الجوية في محافظة الأنبار حيث تتواجد القوات الأميركية. كما كان هناك تقارير أميركية حول استخدام إيران لما يسمّى “طائرات درونز انتحارية” حلقت وهي تحمل متفجرات قرب قوات أميركية في الشرق الأوسط.
”
شهد العراق جولات من العنف تحركها جزئياً تداعيات التنافس الأميركي-الإيراني
”
مع ذلك، وفي ظل هذه الخلفية من التوترات المتصاعدة والتنافسية، لم تكن كل الأخبار سيئة بين واشنطن وطهران. ترامب كان في الغالب صامتاً حول الاحتجاجات داخل إيران حيث لا تزال أولويته القصوى منع التصعيد العسكري وتحقيق اختراق دبلوماسي مع طهران. وللمرة الأولى من ثلاث سنوات، هناك فرصة متاحة للحوار بين الطرفين، نظراً إلى أن النظام الإيراني يتعرض لضغوط اقتصادية شديدة نتيجة العقوبات الأميركية، وترامب يواجه إجراءات عزل في الكونغرس، من دون امتلاك حتى الآن أي إنجاز بارز في السياسة الخارجية خلال ولايته الرئاسية الأولى. ترامب يترك لبومبيو التحدث بلغة صارمة عن إيران، فيما يستخدم البيت الأبيض قنوات خلفية مع طهران نتج عنها صفقة تبادل أسرى في 7 ديسمبر الحالي، تبعها تغريدة من ترامب قال فيها “شكراً لإيران على مفاوضات عادلة للغاية. هل رأيتم، يمكننا عقد صفقة معاً”. لكن ليس هناك إجماع بعد في واشنطن وطهران إذا ما ستؤدي هذه الصفقة إلى شيء أبعد من ذلك.
لدى إيران ما تخسره أكثر من أميركا إذا لم يحصل أي اختراق دبلوماسي خلال الأسابيع المقبلة قبل دخول الولايات المتحدة رسمياً موسم السباق الرئاسي، وبالتالي ما قد يحدث بين واشنطن وطهران سيكون له تداعيات على بغداد وبيروت. هذه السيناريوهات تتراوح بين تكثيف المنافسة في لبنان وسورية والعراق أو التوصل إلى صفقة مقبولة من الطرفين تؤدي إلى استقرار في العراق ولبنان في المدى القريب على الأقل. ما تسعى إليه واشنطن هو رئيس وزراء قريب من مواقفها ليقود حكومة مؤلفة من أخصائيين أو تكنوقراط لإبعاد حلفاء طهران عن الحكم، حتى لو كلف الأمر التضحية سياسياً بحلفاء أميركا التقليديين، مثل سعد الحريري وحيدر العبادي، فيما تتمسك إيران بحكومة خليط من الأخصائيين والسياسيين لضمان نفوذها في بغداد وبيروت. ومن هنا يبدو أن حكومتي تصريف الأعمال في العراق ولبنان قد تستمران لفترة أطول من المتوقع، في ظل عدم وجود قيادات ذات مصداقية من الطبقة السياسية الحالية لإدارة أزمات بهذا الحجم بشكل فعال، فيما يتمسك المتظاهرون بمسعى إصلاح الأنظمة السياسية القائمة التي تشجع الفساد وتستدرج التدخل الأجنبي.
العربي الجديد