كما كان منتظراً في واشنطن، فإن الأكثرية الديمقراطية في مجلس النواب صوتت لعزل الرئيس دونالد ترمب. بالتالي، أقفل الملف في مجلس النواب، بانتظار معرفة آلية المحاكمة التي ستطلبها الأكثرية النيابية من مجلس الشيوخ. وكما يعلم المراقبون، فإن ما يعتبر حاجزاً أمام العزل الكامل متوافر بحكم امتلاك الجمهوريين للأكثرية في مجلس الشيوخ.
وبغض النظر عن موضوع العزل والتراكمات الإعلامية التي ستنتج من الآلية، فالأرجح أن لا يمر العزل في مجلس الشيوخ. وإن سقط، كما حدث مع بيل كلينتون، فإن ترمب سيبقى في البيت الأبيض لعام مقبل، ولأربع سنوات أخرى إذا نجح في الانتخابات.
السؤال المطروح في العالم العربي يتمحور حول السياسات الأميركية تجاه الشرق الأوسط، بعد تمرير العزل في مجلس النواب وتوقيفه في مجلس الشيوخ. وكما هو معروف، فإن ترمب يركز على هذه المعركة الدستورية الهامة، بالتالي هناك عدد كبير من الملفات لم تلفت انتباه الرئيس نظراً لتركيزه على مصير إدارته التي ستستمر في 2020 على الرغم من المعارك، وسيكون لها قدرة على اتخاذ قرارات في ما يتعلق بأزمات الشرق الأوسط والعالم العربي.
في هذا المقال اليوم نكتب لنستعرض الملفات وما يمكن لإدارة ترمب وحلفائها في الكونغرس فعله خلال الأشهر التسعة المقبلة. وللتنويه يجب أن نميز بين القضايا التي تتطور مع الوقت والأزمات التي تنفجر هنا أو هناك، كالإرهاب والأزمات الأمنية والقرارات السياسية السريعة التي يجب اتخاذها. لذا، فإن الملفات البطيئة/ الثقيلة كحل الأزمات الكبرى أو اتخاذ قرارات استراتيجية، فلا أعتقد أن الإدارة ستنشغل بها خلال الفترة المقبلة إلا إذا لزم الأمر.
البداية مع إيران، حيث من المنتظر أن تستكمل الإدارة عقوباتها ضد النظام على كافة الأصعدة، وسيستمر الحشد الأميركي في منطقة الخليج بما في ذلك العراق، لحماية المنطقة من أي تقدم إيراني. هذا الستاتيكو الذي صنعه ترمب في 2019 سيستمر في العام المقبل، بالقوة والزخم نفسيهما، ولا خلاف عليه في واشنطن حتى مع المعارضة، مع إمكانية اتخاذ إجراءات إضافية كتعزيز القوات في سوريا لمواجهة ميليشيات إيران، وتعزيز الانتشار في الخليج، لا سيما في السعودية والإمارات، وفي الوقت نفسه قد نسمع إشاعات كثيفة وتقارير مختلفة معظمها من الطرف الإيراني عن حوارات سرية تجرى مع الأميركيين عبر دول في المنطقة. لكن الاعتقاد أن إدارة ترمب ليست لديها النية والوقت للقيام بعملية تكويع شاملة بعد الذي وصلت إليه، حتى ولو كانت هناك دعوات من قبل النظام الإيراني.
أما في ما يتعلق بتظاهرات إيران، فإن الرئيس ووزير خارجيته مايك بومبيو عبّرا بشكل كبير عن وقوفهما إلى جانب المتظاهرين، مقارنة بالرئيس السابق باراك أوباما، الذي تخلى عن الثورة الخضراء وتفاوض مع المرشد الإيراني علي خامنئي لتوقيع الاتفاق النووي الذي أنهاه ترمب. وليس هناك ما يمنع الرئيس الأميركي من دعم التظاهرات الشعبية، لكن قرار الشراكة مع الشعب الإيراني ليس سهلاً ولن يحدث بين ليلة وضحاها، لأن أي التزام تجاهه سيفرض على أميركا التحرك بكل قوتها إقليمياً ودولياً، ويفرض أن تشعر الإدارة بارتياح لقدراتها السياسية في الداخل، ما يعني أن عليها إنهاء مسألة العزل، وهو أمر صعب في ظل الانتخابات المقبلة.
في العراق، عبرت الإدارة على لسان الرئيس وبومبيو عن أنها تقف إلى جانب المتظاهرين، لكن في الوقت نفسه لم تأخذ قراراً باستخدام قدراتها على الأرض للقيام بأي يتدخل. ولهذا الأمر أسباب مختلفة أهمها، أن اتخاذ قرار كهذا يعني أنها بحاجة إلى كافة الجهود والوقت اللازم لكي تتمكن من وضع خطة وتنفيذها على الأرض في العراق لمصلحة أميركا والعراقيين، والأشهر المقبلة لن تمكنها من القيام بعمل كهذا. إلا أن ما يمكن أن تقوم به إدارة ترمب سيكون مرتبطاً بالتطورات بين الانتفاضة الشعبية والحكومة. وكما بات واضحاً، فإن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي إذا تدخلت إيران بشكل أكبر في العراق. إما إذا استمر الحراك العراقي وتوسع وبات بإمكانه خلق تغيير، فلن تقف أميركا في وجهه، بل على العكس قد تتحاور معه لترتيب المرحلة الانتقالية.
المقاييس الأميركية في العراق تنطبق تقريباً على لبنان. فبومبيو رسم الاتجاه العام بعد إعلانه عن حق المتظاهرين في التعبير عن أنفسهم، إلا أن الذين يمتلكون القرار في الملف اللبناني في واشنطن منقسمون حول كيفية المعالجة. الفريق البيروقراطي يفضل الاستمرار مع أي حكومة لبنانية حتى لو كانت على تواصل مع “حزب الله”، على مبدأ حفظ الاستقرار في هذا البلد، وقد شاهدنا زيارة ديفيد هيل ولقاءاته مع أطراف حليفة للحزب. وهناك فريق آخر في الإدارة، يعتبر أن الحراك شريك فعلي وأنه يمكن الاعتماد على الجيش لحماية المتظاهرين. وكما هي الحال في إيران والعراق، ستستمر إدارة ترمب بدعم التظاهرات والتواصل مع الحكومة وفرض عقوبات على “حزب الله”، والمتغير الوحيد الذي قد يطرأ مرتبط بقيام “حزب الله” بحركة تخرق الخط الأحمر الأميركي، كجر لبنان إلى مواجهة خارجية أو ضرب الحراك الشعبي.
في سوريا، المعادلة ستستمر كما هي عليه. وجود أميركي في شرق البلاد وتدريب قوات سوريا الديمقراطية ومحادثات سياسية حول مستقبل البلاد. المتغير الوحيد قد ينشأ في شمال سوريا، إذا قررت حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تنفيذ أي عمل عسكري يخرق وقف إطلاق النار. ولا يمكن معرفة رد الفعل الأميركي، لأن واشنطن قالت إنها تريد الاحتفاظ بعلاقات مع تركيا ولكن لا تريد أن يخرق أحد الخط الأحمر الذي رسمته.
في شمال أفريقيا، تواكب السياسة الأميركية المتغيرات في ليبيا ويُنتظر أن تكون كثيرة. فالموقف الرسمي هو الاستمرار بالاعتراف بحكومة طرابلس الناجمة عن اتفاق الصخيرات، والتواصل مع الجيش الوطني والبرلمان في طبرق. والمتغير الذي حصل في العام الحالي، تمثل في انتقال واشنطن من الاعتراف الكلي بحكومة طرابلس وعدم التواصل مع حكومة الشرق إلى الوقوف في المنتصف بين الحكومتين. وأعطى اتصال ترمب بالمشير خليفة حفتر الشرق اعترافاً لم يكن موجوداً. وسوف يستمر الستاتيكو الحالي إلا إذا حصل أمر من أمرين، تمكن الجيش الليبي من دخول طرابلس أو تدخل تركي في طرابلس ومصراتة ووقوع المواجهة الكبرى مع الجيش الليبي.
أما في ما يتعلق بالعلاقات الأميركية مع السعودية ومصر والإمارات، فستتواصل كما هي عليه وقد تتعزز في المجالات الدفاعية والاقتصادية لأن هذه الدول تعد الركن الأساسي للتحالف العربي المحافظ على الاستقرار في الشرق الأوسط، وسيستمر التعاون بين واشنطن والتحالف العربي في اليمن، على أساس اتفاق الشرعية والجنوب في الرياض. ومن مصلحة أميركا توحيد جميع القوى لمواجهة النفوذ الإيراني والانفلاش الحوثي.
المتحرك الأقل وضوحاً هو ما يجري في قلب المتوسط، من تركيب محاور جديدة بين تركيا وحكومة طرابلس بدعم قطري، ومصر واليونان وقبرص وحكومة بنغازي وإيطاليا وفرنسا. وهذه المسألة ستكون الثغرة التي على إدارة ترمب مواجهتها واتخاذ قرار بشأنها، خصوصاً مع الدور الروسي ومدى قدرة “الناتو” على ضبط جبهته الجنوبية، مع تأثير هذه التطورات على مكافحة الإرهاب وموضوع اللاجئين.
أخيراً، لا يُنتظر أن تبصر “صفقة القرن” بين إسرائيل والفلسطينيين النور هذا العام، على الرغم من وجود نية لدى ترمب وشركائه العرب، لأن هذه المسألة بحاجة إلى تحقيق أمرين: حل أزمات أكبر في المنطقة وتهيئة القيادات الفلسطينية والإسرائيلية لتقدم جدي باتجاه الحل. لكن مسألة السلام ستنتعش بحال تمكن ترمب من الفوز بولاية ثانية.
اندبندت العربي