عندما تصبح ساحات التظاهرات والاعتصامات في معظم محافظات العراق مركزاً وطنياً وهّاجاً تجذب الشباب طوعاً وحماساً من أجل استعادة وطنهم المخطوف منذ عام 2003، فإنها تُعدّ من المواقع المهمة في ديمومة هذه الانتفاضة المدنية السلمية، إذ بعد تقديم التضحيات الجِسام والفداء بالأنفس والأرواح، وما زالت مستمرة، فإن إزاحة الطبقة السياسية الفاسدة والمفسدة أمر حتمي الوقوع والتحقق، لأنها مجابهة صراع ما بين إرادة الشعب والقوة الغاشمة المتسلطة، وحقائق التاريخ تثبت أن النصر حليف الشعوب الحيَّة دوماً.
نهج تكميلي لانتفاضات سابقة
إن تصاعد الحراك الشعبي في المحافظات ذات الكثافة من العرب الشيعة يُعد نهجاً تكميلياً إلى انتفاضات سابقة عبر احتجاجات شعبيَّة، “ظاهرها” ضد نقص الخدمات، بينها الماء والكهرباء، وكذلك استشراء الفساد المالي والإداري وغيرها، و”باطنها” يفيض باللوم والألم والندم، إذ خدعتهم الأحزاب الدينيَّة السياسيَّة، التي خطفت وطنهم لصالح النظام الإيراني، قبل أن تسرق منهم خيرات بلادهم.
كما أن هذا الحراك الشعبي السلمي الذي اندلعت شرارته في مناطق شرق بغداد، وامتدت سريعاً إلى محافظات الوسط والجنوب ذات الغالبية الشيعية، هي أيضاً امتداد اجتماعي تواصلي لما جرى في المحافظات ذات الكثافة من العرب السُّنة، ومنها ثورة العشائر العربية في 2014، ضد الحيف والجور والظلم الذي مارسه “الطائفي” نوري المالكي في ترؤسه لمجلس الوزراء ما بين (2006-2014).
وعلى الرغم من خروج تظاهرات طلابية مؤيدة في محافظات مثل الأنبار ونينوى وغيرهما، ولكيلا تكون هناك ذريعة تتخذها المجموعات الطائفية المسلحة المدعومة من إيران، ووفقاً لما طالبت به اللجان التنسيقية، على أن تكون ساحات المناطق السُّنية خالية من أي نشاط شعبي داعم لثورة تشرين، وأن المشاركة تكون على شكل أفراد يشاركون في التظاهرات والاعتصامات، وفعلاً أحد الشهداء الذين سقطوا في اليوم الأول من أكتوبر (تشرين الأول) على جسر الجمهورية في بغداد، كان من أهالي الموصل، جاء لمشاركة إخوانه من العراقيين المنتفضين.
أماكن الاعتصامات رمز للحرية والحضور الوطني
إن دور الشباب المنتفض وتصدّيهم الشجاع لهجمات المجموعات المسلحة الموالية لإيران، من العصائب والكتائب والنجباء وبدر والدعوة وغيرها، وعدم تخليهم وانسحابهم من ساحات احتجاجاتهم، من مجابهتهم الرصاص الحيّ والقناصين والقنابل الصوتية والغازية إلى حملة الخطف القتل والاعتقال، والأعداد تتصاعد يومياً، إذ وفق المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب، فإن أعداد ضحايا المدنيين المتظاهرين بعموم العراق في الفترة من 1 أكتوبر إلى غاية 15 ديسمبر (كانون الأول) بلغت 551 قتيلاً و24311 مصاباً و2777 معتقلاً، مما جعل أماكن الاعتصامات رمزاً للحرية والحضور الوطني.
لذلك تجد أن الكثير من الشباب والشابات وعموم العراقيين، يذهب ويشارك في الساحات التي تشهد التظاهرات الشعبية، لا سيما في ساحة التحرير مركز العاصمة بغداد، إذ يتوافد إليها أفراد وجماعات من مختلف المحافظات، فالحضور إلى ساحات الاعتصامات أو المبيت فيها وتأييد الثورة ومطالبها، صار عند العراقيين إثبات وجود وطني من ناحية، ومن ناحية أخرى تسجيل موقف أبيّ في صفحات التاريخ العراقي، كما فعلها آباؤهم وأجدادهم في ثورات العهود الماضية.
ليلة واحدة في ساحة التحرير
ومن الأمثلة، نورد الشاب الجامعي أحمد الزبيدي من محافظة ديالى، إذ يقول “صرت أشعر بالخجل والحرج لأنني لم أسجل موقفاً من خلال المشاركة في التظاهرات، فجميع أصدقائي سجلوا مواقفهم من خلال التظاهر، لذلك ذهبت إلى بغداد وبت ليلة واحدة مع المتظاهرين في ساحة التحرير، ووثّقت مشاركتي بعدد كبير من الصور ومقاطع الفيديو”.
وبالنسبة إلى الذين يؤيدون المنتفضين والثورة، بيد أن أعمالهم التجارية تعيق حضورهم، فإلى حين أن تسنح لهم الفرصة، تجدهم يشاركون في تقديم الدعم والمساعدة، سواء بالمواد الغذائية والطبية أو الجوانب العينية والمالية، ومن بين هؤلاء عادل موزر الذي يعمل في التجارة، يقول إن أصدقاءه يشاركون في التظاهرات، وكان يشعر بالحرج كونه لم يشارك معهم، لكنه أسهم في التبرع بمواد غذائية وزعها أصدقاؤه على المتظاهرين، ومع ذلك يرى أن “هذا ليس كافياً، فقد رأيت أن عليّ أن أكون حاضراً هناك، يجب أن أسجل موقفاً مشرفاً، وهذا ما فعلته، وشاركت ساعات عدة وليومين متتاليين، وعاهدت نفسي أن أخصص وقتاً للمشاركة في التظاهرات، وإن على حساب عملي”.
نجوم الانتفاضة
أما أوائل المتظاهرين والمعتصمين المستمرين في وجودهم بشكل دائم، بالقدر الذي ينظرون إلى أماكنهم بأنها “مقدسة”، خصوصاً بعد الدفاع عنها واستشهاد الكثير من الشباب فيها، فإنهم أصبحوا نجوم الانتفاضة، يفتخر بهم الجميع ويتهافت عليهم الأشخاص لأخذ صور تذكارية معهم، والناشط الثائر عمر كاطع الكاظم نموذجاً.
بلا ريب، إن هذه المواقف وغيرها دالة على حرص الشباب على المحافظة اليومية على ديمومة التظاهر والاعتصام، والتي تعني بكل وضوح أن انتفاضة العراق متماسكة، وأن تماسكها نابع من وعي وإدراك جمعي في تحقيق الأهداف التي خرج في سبيلها الشباب وقدموا، وما زالوا يقدمون، التضحيات من أجل شعبهم في نيل حياة حرة كريمة، ورفعة وطنهم سيادة وشموخاً.
الانتفاضة تدخل شهرها الرابع
إن ديمومة الانتفاضة وتماسكها تعني أيضاً وجود تنظيم لهذا الحراك الشعبي ميدانياً وعملياً، والذي تمثل في اللجان التنسيقية لجهات عديدة تتعاون مع بعضها البعض، سواء داخل المحافظة الواحدة أو بين المحافظات المنتفضة، بغية تحقيق النجاح المنشود لها.
وعليه، مهما استمرت المجموعات المسلحة المدعومة من إيران، في استخدام العنف ضد المتظاهرين والمعتصمين، فلن تتمكن من كسر إرادة الشباب الثائر، لا سيما أن الانتفاضة على أبواب دخول شهرها الرابع، مما يدل على ما يأتي:
أولاً، استطاعت الانتفاضة الشعبية أن تجابه وتتجاوز أخطر مراحلها الدموية، خصوصاً المجازر التي ارتُكبت في بغداد وذي قار والنجف.
ثانياً، رسخت الانتفاضة قدرتها على الثبات والاستمرار، وأفشلت مَنْ ظنوا أن إطالة الوقت مع برودة الجو القارس ليلاً، وتفعيل الخطف والقتل والاعتقال نهاراً، كفيل بزعزعة وتراجع المنتفضين.
ثالثاً، حققت الانتفاضة بعض المكاسب الدولية المهمة لصالحها، منها مواقف منظمة العفو الدولية والمرصد الأورومتوسطي، وتصريحات لمسؤولين غربيين كبار، من بينهم وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو.
رابعاً، وضعت الانتفاضة العراقية النظام الإيراني في إرباك واضح، من اتهام علي خامنئي لها بالعمالة للأجنبي، إلى فشل خطط قاسم سليماني بالقضاء عليها.
خامساً، كشفت الانتفاضة للعالم أجمع، أن الطبقة السياسية في العراق مرفوضة ومنبوذة من عموم الشعب، وأن لا مستقبل للعملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية وأحزاب الفساد.
اندبندت العربي