ذات مساء في بيته الريفي بأربيل، سألت الدكتور برهم صالح، هل تحلم أن تكون زعيماً في بغداد؟ أم ستبقى هكذا كما عهدناك كردياً يعشق الجبل وحياة البسطاء؟
ظننت أنني استثرت فيه عصبيته القومية! فهو اعتاد ملاطفتي ومشاكستي بدماثة خلقه وأريحيته بحوارات بدأت معه منذ خمسة عشر عاماً ولم تتوقف حتى الساعة. حين ألتقيه أتلمس روحاً وعقلاً ينتميان إلى حضارة الجبل قبالة صحافي ابن السهل السومري عاش وتعلم في بغداد!
القلب في كردستان… والعقل في بغداد
قال لي إن بغداد عندي شيء كبير، أن تكون حاكماً أو قائداً فيها بمثابة حلم فهي عاصمة الرشيد، وتاريخ طويل من الحضارات، وسجل من الملوك والرؤساء الكبار، وأردف مازحاً “كاكا صباح قلبي في كردستان وعقلي في بغداد”، و”كاكا” باللغة الكردية تعني أخي.
كان كاكا برهم وقتها في أوج السعادة وهو يؤسس الجامعة الأميركية في السليمانية قبل أربيل، لأنه يظن أن تلك المدينة التي بُصمت باسم أستاذه الرئيس الطالباني تستحق الكثير من الوفاء لتضحياتها وسفر نضالها ضد الديكتاتوريات المتعاقبة وهي في تنازع ثقافي خفي مع نظيرتها أربيل، بالرغم من أن الأخيرة هي عاصمة إقليم كردستنان، غير أنه يرى في العاصمة بغداد متسعاً أرحب لطموحاته بجعل شبابها أكثر تقبلاً للتغيير، ومن دون هيمنة الأحزاب الدينية التي تعيق تطورها وانطلاقها، فذهب إلى أسواقها ومكتباتها وشوارعها وأزقتها، وأحرج السياسيين الذين يرون فيها بازاراً لبيع المنتجات الإيرانية والتركية!
وعلى الرغم من أنني كنت دائم التردد عليه وملاقاته في أربيل أو دبي، فإنني لم ألتقه طيلة مكوثه الأخير في بغداد كرئيس للجمهورية، لحين ناولني صديق كردي مشترك المكالمة معه من السليمانية قائلاً “فخامة الرئيس برهم معك”! وحينها عاتبني كثيراً كوني لم أسعَ للقدوم إليه ورؤيته، وطلب مني البقاء أطول مدة في بغداد لتتاح فرصة أن يراني حال قدومه من السليمانية، مسقط رأسه وملاذه الآمن!
المنطقة الخضراء… بؤرة التآمر
غادرت بغداد عاجلاً ولم أره حتى الساعة، لأنني أعرف أن صداقتي معه لا تكفي لرؤيته وهو محاط بجيوش وحمايات من كل حدب وصوب، تُحصي عليه أنفاسه في “المنطقة الخضراء” التي يُفتقَد فيها الأوكسجين وهواء كردستان العليل، فهو محاط بالفوج الرئاسي الذي يحمي الرئيس ورئيس الحكومة كذلك، لكنها منطقة مقفلة للأحزاب وأتباعهم، وهي بؤرة التآمر على الآخرين كما تناهى إلى مسامعي، وكما يصفها المحتجون الذين يسعون إلى اقتحامها، إن آجلاً أو عاجلاً، وفيها خلطة غريبة من المكونات والشخوص والصفقات، تجمعها الموائد وتفرقها السياسة والعقود!
في “المنطقة الخضراء” حيث تلتقي الدولة المعلنة بالعميقة، على مساحة لا تتعدى عشرة كيلومترات مربعة أنشأتها قوات التحالف الدولية بعد غزو العراق عام 2003 وسط العاصمة العراقية بغداد التي استولت على مركز حكم الرئيس صدام حسين من مباني الدولة الرئيسة التي تُدار منها سلطته وتمركز عائلته! والتي تجعلك تذكر الآية الكريمة “وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ۚ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ”.
لم يمكث برهم صالح أكثر من سنة وبضعة أشهر في بغداد كرئيس للجمهورية، فالدنيا قامت ولم تقعد حتى يسقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي في مرة هي الثالثة في تاريخ العراق الحديث.
الرئيس برهم يتمسك بمصالح الشعب
تبع ذلك ضغوط هائلة على رئيس الجمهورية المُطالَب بتكليف رئيس بديل للحكومة في ظل هيمنة الجناح الإيراني على السلطة، ومحاولاتها تكرار التجربة السورية في العراق باستخدام العنف المفرط ضد الشعب حتى تنتهي هذه الاحتجاجات بأي ثمن! حتى لو قتلوا المزيد من الشباب المحتج.
إلا أن الرئيس برهم صالح تمسك بمسؤوليته بالدفاع عن مصالح الشعب العليا محترماً مطالب المحتجين المشروعة وحقهم في التظاهر والاعتصام وتمثيلهم في حكومة يقبل عليها الشعب (كما أكد في خطابه المقتضب)، حتى تقصي الحكومات الفاسدة التي تعاقبت على البلاد، حيث انكشف أمرها بأكبر سرقات العصر التي تخطت الخمسمائة مليار دولار، وبملفات نزاهة لا تُعد ولا تُحصى، وكلها مؤجلة نتيجة الملفات المقابلة التي تمسكها الحكومة السرية التي تتحكم في القرار، والتي تتنصت حتى على رئيس الجمهورية نفسه بأجهزة أعطتهم إياها الولايات المتحدة لمراقبة تحركات “داعش”، لكنها استخدمتها بالتواطؤ مع إيران للمراقبة والتسجيل لخصومها وتهديدهم بوجود ملفات عليهم تطعن في كل شيء في سلوكهم! كما يؤكد الكثير من المسؤولين العراقيين الذين ينشقون عن النظام، وهذا بات ديدناً معروفاً في المنطقة الخضراء التي تكدست فيها وعند أطراف أخرى تلك الملفات.
معادلة الحكم في بغداد
لكن الرئيس صالح الحصيف يدرك جيدا معادلة الحكم في بغداد بثلاثي المحاصصة السنية للبرلمان، والشيعية لرئاسة الحكومة، والكردية لرئاسة الجمهورية، فقد حصنّ نفسه جيداً بمؤازرة الأسايش (قوات الأمن الداخلي الكردية) و”الأصدقاء الأميركان” كما يصفهم، وتمسك بعدم مخالفة الدستور الورقة التي يشهرها في وجه خصومه من كتلة البناء التي تضم ائتلافاً شيعياً أغلب أتباعه من مرجعية ولاية الفقيه، من بينها فصائل من الحشد الشعبي ومنظمة بدر بزعامة هادي العامري، ودولة القانون بزعامة المالكي وشخصيات سنية توصف بالانتهازية المفرطة، ومجاميع أخرى توالي إيران علناً وتتلقى أوامرها من الجنرال سليماني! ولديها تمثيل في البرلمان تؤثر في قراراته بالقوة والاتفاق.
وقد رشحت أربع شخصيات حتى الآن كلها رفضت من قبل الرئيس الذي طالب مراراً وتكراراً بضرورة تسمية الكتلة الأكبر التي انتُخبت في أبريل (نيسان) من العام الماضي، وتلقيه إجابات متناقضة ومتباينة نتيجة الصراع بين كتلة سائرون بزعامة مقتدى الصدر وتوابعه المسلحة كسرايا السلام، وكتلة العامري وألويتها التي تدين بالولاء العلني لإيران!
التيقُن من ثورة الشعب
لكن الدكتور برهم بصفته حامي الدستور ظل يتمسك بالمادة 67 من الدستور العراقي التي تلزمه بسلامة البلاد وأمنها ووحدتها، وهو متيقن من أن الشعب سيثور بقوة هذه المرة، في حال تقديم مرشح تختاره الأحزاب الدينية وتفرضه على الشعب، فدعا إلى التريث والمعاينة الدقيقة وطالب المتظاهرين أن يكون لهم مرشح محدد، فلم يقدموا أحداً بل اكتفوا بشطب صور مرشحي الأحزاب الثلاثة الذين رشحتهم الأحزاب الدينية، ومن بينهم النائب محمد شياع السوداني وقصي السهيل وزير التعليم العالي وأسعد العيداني محافظ البصرة الحالي وأي مرشح له صلة بالعملية السياسية برمتها، لكنهم أيدوا ضمنياً بعض الأسماء أمثال الفريق عبد الوهاب الساعدي القائد الذي دحر داعش وحرر الموصل، والنائب المشاكس فائق الشيخ علي، من دون ورقة ترشيح من قبلهم.
ولم يأت امتناع الرئيس صالح عن تكليف أي مرشح قدمته الكتل السياسية الحاكمة من فراغ أو عنت شخصي، بل نتيجة تعارض المخاطبات التي وصلت إليه عمن يمثل الكتلة الأكبر المعنية بالترشيح لا سيما بعد انفراط عقد كتلتي البناء والإصلاح المؤلفة من خليط من النواب، في وقت رفضت “سائرون” وهي الكتلة التي حصلت على أعلى الأصوات في الانتخابات الماضية، أن تكون هناك كتلة أكبر ودعمت المحتجين، وذكرت في بيان أن “البرلمان في دورته الحالية لا يضم كتلة أكبر”.
تمسّك الرئيس صالح بتراتبية المواد الدستورية التي تلزمه البدء من المادة الأساسية لمهمته الدستورية، وهي المادة 67 التي ذكرت فحواها أعلاه، والمادة 76 التي تفرض على رئيس الجمهورية رفع اسم المرشح الذي تقدمه الكتلة الأكبر الى البرلمان، التي ترى كتلة “البناء” أنها المعنية بعد انسحاب الصدر والتي تجبر الرئيس على رفع اسم المرشح من دون معاينة أو رأي وكأنه ساعي بريد.
ولسوء حظها فإن الدكتور برهم ليس بهذه السهولة التي يستجيب لها ليفجِّر البلاد التي ترفض أي مرشح من الترويكة الحزبية أو التابعين لها، وهو يعاين صور آلاف الشباب الذين قتلوا وجرحوا واصطبغت بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية بدمائهم، فقد ظلت ماثلة أمامه، فعزف عن ترويج أسماء مرشحي الأحزاب المتورطة بدماء الضحايا!
المغالاة في مهاجمة الرئيس
وقال لهم الرئيس صالح علانية أن مواد الدستور تكمّل بعضها البعض، وأن الأولوية ليست لتسمية رئيس الحكومة بل للسلم الأهلي، واعتبروه خروجا عليهم ومنعهم من مواصلة الحكم، في كواليس الخضراء تسربت الكثير من القصص التي تشي بأن مسلحي الأحزاب السلطوية هددوا حياة الرئيس شخصياً، وطالبوا بإقالته ومهاجمة مقر إقامته في بغداد.
وعلى الرغم من وجود أكثر من لواء من القوات الخاصة لحمايته، آثر وأد الفتنة التي كادت أن تقع وغادر العاصمة إلى السليمانية، الأمر الذي دفع بمهاجمته واتهامه بالتخاذل والحنث باليمين والمطالبة بمحاكمته، بل أكثر من ذلك كما قال أحد النواب المنسوب إلى كتلة “صادقون” النيابية، الذي غالى في مهاجمة رئيس الجمهورية بل دعا الشعب العراقي إلى أن “…. في وجهه” على حد قوله في لقاء متلفز وعلني! ليعبر عن الحرج الذي سببه موقف الدكتور برهم لكتلته ولمن يمثلهم، بل اتهم القيادي في كتلة البناء والإعمار الشيخ قيس الخزعلي بأن رئيس الجمهورية “لم يقم بواجبه الدستوري بتكليف مرشح الكتلة الأكبر وأنه يدخل البلاد في الفوضى ويهدد سلامة ووحدة العراق، بل إنه خالف الدستور”، ووصف تلويح الرئيس برهم بالاستقالة بأنه “ينطوي على مكر وخداع وليس شجاعة وطنية، وأن على الكتل السياسية تقديم رئيس الجمهورية إلى المحكمة الدستورية بتهمة خيانة الدستور”، جاء ذلك في حديث متلفز مساء الجمعة.
أزمة تهدد بفراغ دستوري
وفسر بعض المراقبين غير المحايدين، استقالة الرئيس صالح بأنها “تهرب من المصادقة على قانون الانتخابات الذي رفضته الكتل الكردستانية التي رشحته للرئاسة، واتهموه بأنه يُمهد لرسائل مستقبلية خطرة إيذاناً لمرحلة الفوضى التي لا كابح لها”، على حد وصف الدكتور هاتف الركابي.
لكن اللافت امتناع المرجعية في النجف، على غير عادتها، عن التعليق هذا الأسبوع على الأحداث التي يشهدها العراق وعما يحدث بعُيد استقالة الرئيس ودخول البلاد في نفق أزمة أكبر تهدد بفراغ دستوري، واكتفت بمواعظ أخلاقية عن الحكمة والعقل، ما أثار تساؤلات كثيرة عن عدم الاكتراث بما يحدث في البلاد الذي يحظى باهتمامها أسبوعياً، خصوصاً أن استقالة الرئيس تضع البلاد في أتون صراع شديد بين المكونات السياسية النافذة.
يبدو أن تلويح الرئيس برهم صالح بالاستقالة التي وضعها في ملعب البرلمان قد أحرج الجميع بعد سلسلة الضغوط التي واجهها والتي لخصها بأنها “تفادٍ للإخلال بالمبدأ الدستوري”، وأثارت أسئلة شتى، فهل نال بذلك ثقة الشعب؟ هل كبح غلو الكتل التي تسعى إلى فرض مرشح عنها ينفذ سياسة (جنايني) الحديقة الخلفية لإيران ويرعى مصالح أتباعها ومريديها؟ وهل تمكن الرئيس صالح القادم من السليمانية أقصى شمالي العراق من الاندماج مع مجتمع بغداد وفهم مطالبها؟ حيث أتيح له بعد حكمها برهة من الزمن أن يحقق حلمه؟ قبل أن يعود مسرعاً إلى ملعب صباه وملاذه الآمن في السليمانية بعيداً عن مدينة بغداد التي ظلت عصية على من يحكمها؟ حتى ولو بالمحاصصة السياسية التي أوصلت الدكتور برهم واثنين قبله (الرئيسان جلال طالباني وفؤاد معصوم) الكرد إلى سدة الحكم للمرة الأولى في تاريخها والتي لم يعتد عليها العراقيون بعد! الذين يرون في عاصمتهم امتداداً تاريخياً لعصر الدولة العباسية التي نادى هارونها الغيمة أينما تذهبين فإن خراجك لي، ونكبّ البرامكة الفرس لأنهم أزعجوا بتدخلهم في المُلك السيدة زبيدة؟!
اندبدنت العربي