بدأ عام 2019 عصيبا على إيران، فالتصعيد الأمريكي تجاه النظام لم يقف عند حد، بل ازدادت شدة ضغوط إدارة ترامب عبر فرض حزم جديدة من العقوبات في مسعى للوصول إلى تصفير صادرات البترول الإيراني، ما يعني عمليا الحكم على النظام بالانهيار، من جانب آخر كان السعي الأمريكي واضحا لخلق محور مكون من إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي ومصر لمواجهة النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط عبر تطبيق ما عرف بسياسة تقليم أظافر إيران في الدول التي لها فيها بنفوذ مميز كالعراق وسوريا ولبنان واليمن.
وضمن سياق خلق المحور المواجه للنفوذ الإيراني شهدت العاصمة البولندية وارسو يومي 13 و 14 شباط/فبراير عقد مؤتمر دعت له الولايات المتحدة تحت اسم ”مؤتمر وارسو للسلام في الشرق الأوسط”. المميز في هذا المؤتمر انه كان حسب توصيف المراقبين عرسا تطبيعيا بين إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية.
وقد أظهر فيديو مسرب من وقائع مؤتمر وارسو تصريحات تسابق فيها وزراء خارجية خليجيين لإبداء تعاونهم في شأن التقارب مع إسرائيل، ووجوب إدارة المواجهة مع إيران، إذ قال وزير الخارجية البحريني خالد بن أحمد آل خليفة وبحضور نتنياهو والوفود المشاركة في جلسات المؤتمر: إن “عملية السلام بين الإسرائيليين والعرب كانت لتكون في وضع أحسن الآن لولا تصرفات إيران الشريرة”. وأضاف أن “أموالا سامة، وأسلحة وقوات برية تابعة للجمهورية الإسلامية أعاقت إحراز تقدم على صعيد الجهود المبذولة لإحلال السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين”. أما وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، فقد أشار إلى حق إسرائيل في مهاجمة أهداف إيرانية في سوريا. وفي جوابه على سؤال بشأن الهجمات الإسرائيلية الهادفة إلى منع إيران من ترسيخ أقدامها عسكريا في سوريا، قال: “لكل أمة الحق في الدفاع عن نفسها، عندما تواجه تحديا من أمة أخرى”. أما وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودية عادل الجبير، فقد اتهم إيران بالإضرار بالقضية الفلسطينية عبر دعم جماعات مسلحة تتنازع مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورأى أن أنشطة إيران العدوانية تقوض الاستقرار في المنطقة على نحو يستحيل معه تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وقال: “انظروا إلى الفلسطينيين: مَن ذا الذي يدعم حماس والجهاد الإسلامي ويقوّض السلطة الفلسطينية؟ إنها إيران”.
تزامنا مع أيام مؤتمر وارسو ضرب الإرهاب في مدينة سيستان في بلوشستان الإيرانية قرب الحدود الباكستانية، حيث أوقع تفجير انتحاري استهدف حافلة للحرس الثوري الإيراني 20 قتيلا على الأقل جنوب شرق إيران، في هجوم عدته الحكومة الإيرانية بداية لإعلان حرب خفية تحركها أجندة أمريكية وتنفذها قوى إقليمية عبر تحريك تنظيمات تضعها إيران على لائحة الإرهاب مثل تنظيم ”جيش العدل” السني المتطرف في بلوشستان الإيرانية الذي أعلن مسؤوليته عن العملية.
وجاءت زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني للعراق في اذار/مارس لتثير الكثير من اللغط، إذ اعتبر أنصار التيار المناهض للنفوذ الإيراني في العراق الزيارة نوعا من الالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، ومحاولة لتحميل الاقتصاد العراقي الذي يعاني الكثير من المشاكل، أعباء كبيرة سيتم بموجبها استقطاع اللقمة من فم المواطن العراقي لتقديمها لإيران، كما نبهوا لخطورة استعمال العراق قنطرة تمرر إيران المحاصرة أمريكيا عبرها صفقاتها المريبة مع العالم.
وفي 13 حزيران/يونيو ارتفعت حدة التوتر في المنطقة نتيجة الهجوم على ناقلتي النفط “فرونت ألتاير” من النرويج و”كوكوكا كوريدجيوس” من اليابان. وفي اليوم نفسه اتهمت الحكومة الأمريكية إيران بمهاجمة الناقلات في خليج عمان باستخدام ألغام مغناطسية، فيما نفت إيران هذه الإتهامات. ولم يقف التوتر عند هذا الحد، فقد صعدت الولايات المتحدة من موقفها تجاه إيران وأرسلت قطعا حربية من أسطولها فيما سمته عملية حماية مضيق هرمز من التهديدات الإيرانية، وردت حينها إيران بإعلان جهوزيتها التي رفعتها إلى الدرجة القصوى، وتوقع العالم حدوث حرب بين الطرفين اختلف المحللون عن مدياتها، وهل ستكون حربا شاملة في الشرق الأوسط، أم مجرد ضربات عسكرية محدودة.
تصعيد
حبس المراقبون أنفاسهم نتيجة التصعيد الذي جرى يوم الخميس 20 حزيران/يونيو عقب إسقاط الدفاعات الجوية الإيرانية طائرة مسيرة أمريكية حديثة الصنع، متطورة القدرات، كانت تطير فوق المياه الدولية في مضيق هرمز حسب الادعاءات الأمريكية، وفوق المياه الإقليمية مخترقة الاجواء الإيرانية حسب الرواية الرسمية الإيرانية. وأشارت مصادر صحافية إلى تراجع ترامب عن إصدار قرار بضربة مخططة كان من المفروض توجيهها لإيران في وقت متأخر من مساء الخميس 20 حزيران/يونيو.
وأشارت مصادر صحافية أمريكية مطلعة إلى إن دبلوماسيين ومسؤولين بارزين كانوا ينتظرون الضربات قبيل الساعة السابعة مساءً بتوقيت واشنطن (قبيل الفجر بتوقيت الشرق الأوسط) لكن المشاورات المكثفة التي أجراها ترامب مع كبار مستشاريه، أدت إلى إيقاف او تأجيل الحل العسكري الأمريكي، ليأتي حديث ترامب بعد ذلك مشيرا إلى انه سأل جنرالاته عن الخسائر البشرية المتوقعة التي ستسببها الضربات الأمريكية، فأجابه أحد المسؤولين العسكريين أن العدد هو 150 شخصا. وعندها أوقف ترامب أمر الضربة العسكرية قبل عشر دقائق من موعد التنفيذ. لكن سرعان ما عادت تصريحات ترامب النارية، إذ قال يوم الأحد 23 حزيران/يونيو إنه لم يلغ الأمر بضرب إيران، لكنه أوقف تنفيذه في المرحلة الحالية، وكتب على حسابه في تويتر: “لم أتراجع عن ضرب إيران، كما يقولون بشكل غير صحيح، لكنني أوقفت التنفيذ فقط في هذه المرحلة”.
ومنذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي مثل اندلاع المظاهرات في العراق ولبنان في وقت متزامن تحديا لحكومات مدعومة إيرانيا، كما مثل سحب البساط من تحت أقدام النفوذ الإيراني في دول المنطقة، ومثلت استقالات حكومتي الحريري وعبد المهدي ضربتين موجعتين لحلفاء إيران في البلدين، وأتت التظاهرات الإيرانية مكملة لموجة احتجاجات تحاول الإطاحة بالنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط.
فقد شهدت العديد من المدن الإيرانية يوم 15 تشرين الأول/نوفمبر الماضي موجة تظاهرات عارمة احتجاجا على زيادة سعر البنزين، لكن التظاهرات المطلبية سرعان ما تحولت إلى حركة احتجاج سياسية مناهضة لسياسات النظام. فقد طالب الشارع الإيراني حكومة حسن روحاني بالكف عن اهدار ثروات البلد التي يتم صرفها عبر التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار في الشرق الأوسط.
وشهدت عدة مدن إيرانية بينها العاصمة طهران، وعلى رأسها عبادان، المحمرة، بوشهر، مشهد، شيراز، وتبريز، احتجاجات عنيفة، أحرقت فيها صور المرشد علي خامنئي، وقد وصل عدد القتلى بين المتظاهرين حسب تسريبات من مصادر مستقلة إلى المئات، إضافة إلى جرح الآلاف واعتقال أكثر من سبعة آلاف متظاهر، كما تعرض حوالي 700 فرعًا بنكيًّا و140 مبنى حكوميا إلى الحرق، لكن مع حملة القمع الحكومية الشرسة والتعتيم المفرط تم إخماد حركة الاحتجاج في غضون أيام.
ويبقى أمل النظام الإيراني معلقا بحملة الحزب الديمقراطي الأمريكي الساعية لعزل الرئيس ترامب، أو فوز الديمقراطيين في انتخابات 2020 ليحصل الإيرانيون على متنفس بعد فك القيد الخانق الذي فرضته إدارة ترامب عليهم طوال السنوات الماضية، وهذا ما ستبينه تقلبات السياسة السنة الآتية.
القدس العربي