العراق: رسائل سياسية عبر السلاح

العراق: رسائل سياسية عبر السلاح

بعد سلسلة رسائل الدرونز/ الصواريخ مغفلة المرسل التي استهدفت مقرات ومخازن أسلحة تابعة للحشد الشعبي في العراق، وسلسلة مقابلة من رسائل الكاتيوشا مغفلة المرسل أيضا، وآخرها الرسالة التي أودت بحياة متعاقد أمريكي في قاعدة (ك1) في كركوك، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية للمرة الأولى، في بيان رسمي أنها استهدفت قاعدة لكتائب حزب الله العراقي في منطقة القائم على الحدود العراقية السورية، فضلا عن قواعد للحزب نفسه داخل سوريا، مما تسبب في مقتل 25 مقاتلا، وعشرات الجرحى. وقد جاءت الغارة كما يقول البيان ردا على استهداف الحزب لقاعدة كركوك دون إشارة إلى مصدر هذا اليقين الأمريكي بأن حزب الله كان وراء تلك الضربة.
لقد ذكرنا مرارا أن الولايات المتحدة وإيران لا تريدان كلتاهما الذهاب إلى مواجهة عسكرية، وأن الرسائل السياسية عبر السلاح بينهما في العراق، تأتي في سياق الضغط المتبادل، في منطقة فراغ يحاول كل منهما إفهام الآخر بأنه الأكثر حضورا فيها! فيما تبدو الدولة العراقية، بجميع سلطاتها ومؤسساتها، عاجزة تماما عن التأثير في مسار هذه الرسائل، لأن واقع الأمر أن هناك دولة موازية، تمثلها قوى سياسية/ عسكرية، ترتبط عقائديا (تؤمن بمبدأ الولاية العامة المطلقة للفقيه) وعضويا بإيران، لديها قراراها الذاتي (شكليا على الأقل لأن قرارها الحقيقي هو قرار إيراني بحت) الذي لا علاقة له بقرار الدولة /الحكومة العراقية، وهي قادرة على إنفاذ قرارها.
أما الولايات المتحدة نفسها فهي أيضا تضع قواتها العسكرية في العراق دون أي إطار قانوني واضح ومحدد. إذ لم تعد اتفاقية وضع القوات، التي تعرف اختصارا باتفاقية صوفا، قائمة من الناحية القانونية لأنها انتهت بتاريخ 31 كانون الاول/ اكتوبر 2011 بموجب المادة 30 من الاتفاقية نفسها. كما أن الاتفاقية الثانية، وهي اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي تتحدث عن التعاون في مجالات متعددة، من بينها التعاون الدفاعي والأمني، الذي جاء بأربعة أسطر فقط، لم تحدد آليات هذا التعاون. فقد تواجدت القوات الأمريكية الموجودة حاليا في العراق بموجب دخول الأخير طرفا في التحالف الدولي الذي أنشئ في أيلول/ سبتمبر 2014، لمواجهة تداعيات سيطرة تنظيم الدولة/ داعش مناطق واسعة في العراق وسوريا، تماما كما تواجدت قوات دول أخرى، مثل فرنسا التي لم تعقد مع العراق أي اتفاقية ثنائية، بالتالي فان ما يحدد طبيعة العلاقة وسياقات العمل بينها وبين الدولة العراقية ليس سوى تفاهمات ضمنية غير معلنة، وربما أمر واقع مفروض على الطرفين، وليس إطارا قانونيا محددا وواضحا وملزما لكليهما.

الولايات المتحدة وإيران لا تريدان كلتاهما الذهاب إلى مواجهة عسكرية، وأن الرسائل السياسية عبر السلاح بينهما في العراق، تأتي في سياق الضغط المتبادل، في منطقة فراغ يحاول كل منهما إفهام الآخر بأنه الأكثر حضورا فيها

لقد كان توقيت الغارة على «كتائب حزب الله» وحجمها وما أسفرت عنه، واعتراف الولايات المتحدة الرسمي، بذلك، خطأ استراتيجيا غير مسوغ، فقد أعطت هذه الضربة الفرصة للفصائل السياسية/ العسكرية ذات الولاء الإيراني الصريح، لاستغلال دماء الضحايا الذين سقطوا في الغارة الأمريكية سياسيا وعاطفيا، فقد تحولت هذه الفصائل وللمرة الأولى، منذ اندلاع حركة الاحتجاج في العراق الأول من تشرين الأول/ اكتوبر، من حالة الدفاع التي اضطرت اليها، بعد أن اتهمها المحتجون لها بأنها «أدوات إيرانية»، وأنها كانت وراء عمليات القتل المنهجية، فضلا عن حالات الاغتيالات والاختفاء القسري، التي يتعرض لها الناشطون في حركة الاحتجاج، إلى حالة الهجوم. لتتقدم بخطوة أوسع من خلال دخولها «السلس» إلى المنطقة الخضراء، ومهاجمتها مبنى السفارة الأمريكية، في محاولة للالتفاف على حركة الاحتجاج ككل من جهة، وللتملص من تهديداتها الاستعراضية بضرب المصالح الأمريكية ليس في العراق وحسب، وإنما خارجه أيضا (كما جاء في بيان كتائب حزب الله)! لكن في المقابل، كشف هذا المشهد أيضا عجز الدولة/ الحكومة العراقية وأجهزتها عن مواجهة هذه الدولة الموازية! وبدا واضحا أيضا، من خلال ردة الفعل الأمريكية الباردة نسبيا، أن ثمة «تطمينات» بأن الأمر لن يتعدى مهاجمة السور الخارجي، والملاحق الخارجية، للسفارة، وأن الأمر لن يتطور إلى اقتحام السفارة نفسها، أو تعريض موظفيها للخطر، وأن المهاجمين سينسحبون من محيط السفارة في اليوم التالي بالسلاسة نفسها التي دخلوا بها! وهو ما يعني ان الدولة/ الحكومة العراقية قامت بدور «الوسيط» بين الولايات المتحدة من جهة، وإيران وأدواتها في العراق من جهة ثانية، لاسيما أن الولايات المتحدة كانت قد أبلغت، قبل هذا، رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء العراقي المستقيل، رسميا بأن ثمة ضربة ستوجه إلى ما يفترض، شكليا على الأقل، انها قوات عسكرية عراقية، ولم يتمكن كلاهما من منع هذه الضربة! ومع كل أزمة يتضح عجز كارتل الدولة/ السلطة في العراق عن الوقوف بوجه الدولة الموازية، ومع هذه الأزمة يتضح ايضا تواطؤ هذا الكارتل العاجز على قبول مسرحية اقتحام المنطقة الخضراء المحصنة، ومهاجمة السفارة الأمريكية، مع وجود اتفاق صريح، او ضمني، على حدود هذا الهجوم وتوقيتاته!
بعد الانسحاب الأمريكي من العراق في نهاية عام 2011، لم يعد العراق حاضرا في الاستراتيجية الأمريكية إلا بوصفه دولة فاشلة، يمكن لها أن تشكل خطرا على الولايات المتحدة الأمريكية. وهي الفرضية التي أكدها تنظيم الدولة/ داعش، الذي أجبر الولايات المتحدة على العودة إلى العراق، في سياق مواجهة هذا التنظيم دون الاهتمام بتغيير في استراتيجيتها تجاه العراق (الدولة). وبعد هزيمة داعش، وبدء المواجهة الأمريكية الإيرانية حول ملفها النووي، وصولا إلى فرض العقوبات الأمريكية عليها، بات ينظر إلى العراق، أمريكيا، في سياق هذا الصراع أيضا! وهو ما انعكس بشكل واضح على موقف الولايات المتحدة من الجماعات السياسية/ العسكرية الموالية لإيران في العراق، الذي انتقل من موقف التواطؤ والدعم الضمني (تسليحا وتوفير غطاء جوي) في سباق الحرب على داعش، إلى موقف العداء الصريح في سياق المواجهة مع إيران! مع ذلك فإن الولايات المتحدة تعي تماما أنها تواجه معضلة حقيقية في مواجهة التغول الإيراني في العراق، خاصة وأن أي انسحاب أمريكي من العراق، أو محاولة لفرض عقوبات على الدولة العراقية، يمكن أن يقوض الوضع الهش القائم، مع بقاء تهديد داعش موجودا بالقوة وبالفعل. وهو نفسه ما يفسر، نسبيا، موقفها «المحايد» غير المسوغ أخلاقيا من حركة الاحتجاج، على الأقل في بداياتها.

القدس العربي