يمكن اعتبار اغتيال الجنرال قاسم سليماني بعملية عسكرية أمريكية في العراق ذروة كبرى في «بارومتر» العلاقات المعقدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وقد يؤذن بانتهاء الظاهرة التي بدأت مع اجتياح القوات الأمريكية للعراق عام 2003، والتي ساهم في بنائها مواجهة الطرفين لأعداء مشتركين، بدءا من نظام صدام حسين، الذي كانت إيران تعتبره خصمها الوجودي، ومرورا بالمقاومة العراقية للاحتلال (التي شكل السنة حاضنتها الاجتماعية)، وانتهاء بالصراع مع تنظيمي «القاعدة» وخلفه «الدولة الإسلامية».
أحد تجليات هذه الظاهرة كان طلب الإدارة الأمريكية المباشر من إيران مواجهة تنظيم «الدولة» بعد استيلائه على مدينة الموصل، وهو ما رفضته طهران على لسان زعيمها آية الله علي خامنئي، لكنه تحقق بفتوى المرجع الشيعي الأكبر علي السيستاني التي أدت لنشوء «الحشد الشعبي»، كما كان من نتائجها تغاضي أمريكا عن التمدد الإيراني في سوريا واليمن، ونفوذها الكبير في لبنان عبر «حزب الله».
أدت العملية العسكرية، حسب الأنباء، إلى مقتل أبو مهدي المهندس، نائب رئيس «الحشد الشعبي»، إضافة إلى صهري سليماني وعماد مغنية (القائد الأمني الكبير الراحل لـ«حزب الله» اللبناني)، ولعل هذا التراخي الأمني من قبل السلطات الإيرانية، وقائدها الذي يعتبره كثيرون الشخصية الثانية الأعلى نفوذا وتأثيرا في سلم القيادة الإيرانية (بعد المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية)، يمكن أن يعتبر تقصيرا استخباراتيا، ولكنه، من جهة أخرى، يمكن أن يفسر الهدوء الكبير الذي راكمته طهران في علاقتها مع أمريكا، التي تغاضت عن سلسلة هائلة من العمليات الأمنية والعسكرية والسياسية ضد نفوذها في المنطقة العربية، لأن رصيد الأرباح الاستراتيجية الأمريكية كان أهمّ من الخسائر تلك.
بهذا المعنى فإن إسقاط نظام صدام حسين، ومكافحة المقاومة السنية (وكذلك الشيعية) للاحتلال الأمريكي، والقضاء على «القاعدة» و«الدولة الإسلامية»، ومواجهة «الإرهاب السني» في العالم، كانت أهدافا مشتركة بين واشنطن وطهران، وكان تراجع هذه المخاطر بالتالي إيذانا بتصدع اتفاق الضرورة القائم على المصالح المشتركة رغم الاختلافات الأيديولوجية والسياسية والعسكرية الهائلة بين الطرفين.
غير مهم، ضمن هذا السياق التاريخي، لا بالنسبة لواشنطن أو طهران، أن «اتفاق الضرورة» كان أحد أهم الأسباب في الخلخلة الكبرى في المنطقة العربية، وأنه كان عاملا مباشرا في تصدع النسيج الاجتماعي للبلدان العربية (وربما إيران نفسها) والاحتشادات الطائفية في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وفي تصلب الأنظمة العربية، وهو ما فتح المجال واسعا لاستفراد إسرائيل بالفلسطينيين، ولتنامي نزعات التطبيع العربية معها.
يؤذن اغتيال سليماني، في هذا السياق التاريخي الكبير، بتطورات كبيرة في المواجهة الأمريكية ـ الإيرانية، وربما بتصعيد غير مسبوق، غير أن حجم الضربة الكبير يمكن أيضا أن يدفع طهران إلى مراجعة حساباتها وإعادة ترتيب أولوياتها.
امتدادات إيران الكبيرة في المنطقة العربية والعالم يجعل ردها الممكن صعب التكهن، ولكنها ستتردد، على الأغلب، في دعوة «حزب الله» اللبناني للرد، وخاصة بعد أن خسر الكثير من نفوذه السياسي إثر الانتفاضة اللبنانية المستمرة، كما أن ردا في مياه الخليج العربي قد يستدعي ردا مضادا ينقل المواجهة إلى داخل أراضيها، والأغلب بالتالي أن تستخدم خزانها الكبير من الميليشيات العراقية وبذلك يتحمل العراقيون، مرة أخرى، عواقب معركة تضرهم، وقد تساهم في إجهاض الثورة الشعبية القائمة.
القدس العربي