هناك تراجيديا شكسبيرية في نهاية قائد “فيلق القدس” الإيراني اللواء قاسم سليماني، هذا الذي تنقل بين بيروت ودير الزور وحلب وبغداد، وكان رمزاً لـ”محور الممانعة”، فيما ينبئ مقتله في العراق بمرحلة جديدة من الصراع الأميركي – الإيراني. المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي تحدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنه لن يفعل شيئاً رداً على الهجوم على السفارة الأميركية في العراق، لكن المراهنة على وهن الأميركيين أدخل المنطقة اليوم في معادلات جديدة تنهي قواعد الاشتباك وتقاسم النفوذ في مناطق النزاع بين الطرفين.
الكرة الآن في ملعب خامنئي لتحديد توقيت ضربة الانتقام وحجمها ومكانها، لا سيما أن طهران لا تريد أن تعطي انطباعاً بأنها ضعيفة أو في موقع دفاعي. أميركا غيّرت قواعد اللعبة في العراق، ونقلت إيران من تفضيلها حروب الوكالة إلى استهداف مباشر لذراعها العسكري والسياسي في المنطقة. يملك الجيش الأميركي التفوق الجوي للردع، فيما لدى النظام الإيراني لائحة من الأهداف الأميركية في المنطقة يمكن ضربها إذا اختار التصعيد. تخلّت أميركا عن وضعيتها الدفاعية وأبلغت المعنيين بأن تخليها عن الحلفاء الخليجيين والأكراد لا يعني أن نفوذها يتراجع في المنطقة.
هذه لحظة مفصلية من محطات المدّ والجزر والكر والفر بين واشنطن وطهران منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003. هندس سليماني حينها عمليات قتل الجنود الأميركيين في العراق، وصولاً إلى ليّ ذراع إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، التي قبلت على مضض بتشريع النفوذ الإيراني في العراق، عبر تسوية أوصلت نوري المالكي إلى رئاسة الوزراء. بعدها كان صعود تنظيم “داعش” عام 2014، وخوض إدارة الرئيس السابق باراك أوباما معارك ضد هذا التنظيم الارهابي في سورية والعراق ضمن اتفاق ضمني بعدم المواجهة مع مشروع سليماني الذي ربط إيران عبر جسر بري بالمشرق العربي. والخلاصة كانت تسوية نووية مع طهران، وتقاسم نفوذ في لبنان والعراق.
”
أتت تظاهرات لبنان والعراق لتنهي الاتفاق الضمني على تقاسم النفوذ بين طهران وواشنطن
”
مع دونالد ترامب، بدأ التحوّل التدريجي عبر الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي وفرض عقوبات على طهران وتصفير الصادرات النفطية الإيرانية، ما أخرج النظام الإيراني عن طوره، من إسقاط طائرة أميركية من دون طيار في مضيق هرمز، إلى اعتداء نوعي على منشآت “أرامكو” في السعودية في يونيو/ حزيران الماضي، عندما شعر قاسم سليماني أن هناك احتمال لقاء بين ترامب ونظيره الإيراني حسن روحاني. وأتت التظاهرات الشعبية في لبنان والعراق في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لتنهي الاتفاق الضمني على تقاسم النفوذ بين الطرفين. عندها صال وجال سليماني، لتتمسك طهران بالأمر الواقع الإقليمي عبر تحييد لبنان والتنمر على الأميركيين في العراق. هذا الشعور الإيراني بنشوة التحرك الإقليمي من دون توقع أي رد أميركي، كلّف سليماني حياته.
هناك تجانس داخل إدارة ترامب سمح بتنفيذ هذه العملية، لا سيما بين وزير الخارجية مايك بومبيو وقائد القيادة المركزية في الجيش الأميركي الجنرال كينيث ماكينزي، إذ تحوّل النقاش داخل هذه الإدارة خلال الأسابيع الماضية من كيف يمكن ردع إيران من دون الدخول في حرب معها، إلى حجم الرد على طهران وتوقيته. العقوبات فشلت في ليّ ذراع إيران، ولا أفق لتفاوض نووي، فيما إرسال 14 ألف جندي أميركي إلى الخليج العام الماضي لم يقنع طهران بأن تأخذ التهديدات الأميركية بجدية. وبعدما توفرت معلومات أن سليماني في بغداد وقد يكون يخطط لعمليات جديدة ضد أهداف أميركية، كانت هناك نافذة ضيقة لاتخاذ قرار اغتياله، فأعطى ترامب الضوء الأخضر.
”
توفرت معلومات أن سليماني في بغداد فأعطى ترامب الضوء الأخضر لاغتياله
”
في وجه ما تعتبره طهران “حرباً اقتصادية” أميركية عليها، وفي ظل ضربات متتالية إسرائيلية ضد أهداف إيرانية في سورية، على النظام الإيراني الرد على قتل سليماني بطريقة تحفظ ماء الوجه. وعلى الأرجح ستتجه طهران إلى رفع كلفة بقاء القوات الأميركية في العراق عسكرياً أو سياسياً عبر الضغط لإخراج هذه القوات. وطبيعة رد إيران ستحدد ما هو إرث ترامب في الشرق الأوسط بعد قتله سليماني، وهل سيؤدي ذلك إلى انكشاف القوات الأميركية في العراق، أو تكون نقطة تحوّل في قدرة واشنطن على ردع طهران؟ لا يرغب الطرفان الأميركي والإيراني بمواجهة كلاسيكية مباشرة، وأبعد من رمزية قتل سليماني، قصف إيران جواً لا يكفي لردعها طالما واشنطن لا ترغب بحرب ميدانية تورطها في نزاعات المنطقة. فيما تبقى الضحية الأكبر في كل هذا الصراع الإقليمي هي انتفاضة العراقيين وسعيهم إلى نظام أفضل متحرر من التدخل الأجنبي.
العربي الجديد