إذا نظرنا إلى المسوح التي تناولت فصائل الحشد الشعبي العراقي سنجد انها تتكون من حوالي 70 فصيلا مسلحا. الملفت في هذه الفصائل ان حوالي 75 في المئة منها تقلد السيد علي الخامنئي، الولي الفقيه الإيراني، حسب ما تعلنه في مواقعها الرسمية على الإنترنت. ومعنى التقليد في الفقه الشيعي، أن المقلد يتبع وصايا وفتاوى وتوجيهات الفقيه الذي يقلده في الأمور الدينية والدنيوية، بمعنى آخر، إن ثلاثة أرباع فصائل الحشد الشعبي لا تتبع فتاوى المرجع الأعلى في حوزة النجف السيد علي السيستاني، وبالتالي، فهي لم تتشكل استجابة لفتوى السيستاني بالجهاد الكفائي، بل تشكلت وفق احتياجات وخطط السياسة الإيرانية الخارجية التي يقودها وينسقها فيلق القدس/العمليات الخارجية في الحرس الثوري الإيراني، وقائده الجنرال قاسم سليماني.
وهنا يجب أن نشير إلى المعلومات التي يذكرها باحثون مقربون من إيران مثل عبد الأمير العبودي، وهو إعلامي ومحلل سياسي، ذكر في أحد اللقاءات التلفزيونية معلومة مهمة وهي التفريق بين الحشد الشعبي وفصائل المقاومة الإسلامية، إذ ان فصائل المقاومة الإسلامية ومنها منظمة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله العراقي، وحركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء، ولواء ابو الفضل العباس، وحسب العبودي، هي فصائل ولائية، بمعنى انها تدين بالتبعية للولي الفقيه في إيران وتتبع خطه السياسي، عبر التنسيق مع فيلق القدس وقائده قاسم سليماني المسؤول عن تنفيذ سياسة تصدير الثورة الإسلامية في الشرق الأوسط، وبذلك تحصل على التمويل والدعم والتسليح والتدريب من إيران بشكل مباشر. بينما توجد بعض الفصائل الأخرى، التي يمكن اعتبارها حشدا شعبيا وأهمها سرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر وبعض الفصائل الصغيرة التي تدين بالولاء لشخصيات سياسية عراقية وتدين فقهيا بتقليد السيد السيستاني في حوزة النجف.
الفرق بين فصائل الحشد وفصائل المقاومة الإسلامية واضح من حيث الانضباط والتسليح والتمويل، إذ تعاني فصائل الحشد من العوز وضعف التسليح وقلة الخبرة والاندفاع العقائدي مما أدى إلى ان تكون خسائرها كبيرة في المعارك التي خاضتها ضد تنظيم الدولة “داعش” بينما نرى تنسيق فصائل المقاومة الإسلامية فيما بينها عاليا، وتسليحها متطورا، مدعومة بالصواريخ الحرارية والعربات المصفحة التي تم شرائها من إيران، وتمثلت مهماتها على الأرض بإمساك المدن التي يتم تحريرها، أو لعب دور أطواق الحصار قبل مهاجمة المدن من فرق مكافحة الإرهاب كما حصل في تحرير مدن صلاح الدين ونينوى.
صدامات
مع انطلاق العمليات المسلحة ضد عصابات تنظيم الدولة “داعش” التي اشترك فيها الحشد الشعبي مع الجيش العراقي بمختلف صنوفه بالإضافة إلى البيشمركه الكردية، وقد قدم التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة دعما لوجستيا، وبشكل خاص عمليات الطيران التي تكفلت بالقصف الجوي الذي قدم دعما للقوات الأرضية المختلفة.
وقد حدثت بعض التوترات بين القوات الأمريكية وفصائل الحشد المدعومة إيرانيا، وأطلقت بعض الاتهامات المدعية ان طيران التحالف قام بقصف بعض مواقع الحشد، إلا إنها بقيت في حدود الاتهامات، وقد تعاطت معها حكومة العبادي عبر تشكيل لجان تقصي حقائق ولم تصل إلى نتائج مؤثرة، باستثناء بعض الحالات التي وصفت بانها نيران صديقة خاطئة وهو ما يحدث أحيانا في العمليات العسكرية.
وتجدر الإشارة إلى ان الفصائل المختلفة كانت تخضع بشكل صوري لسيطرة القائد العام للقوات المسلحة العراقية، رئيس الوزراء، ألا إن الواقع على الأرض كان متمثلا بسيطرة رجل إيران الأقوى في العراق أبو مهدي المهندس الذي عين نائبا لرئيس هيئة الحشد، بالإضافة إلى شخصيات نافذة مثل هادي العامري قائد منظمة بدر، وقيس الخزعلي قائد ميليشيا عصائب أهل الحق، وبعض القيادات الأخرى القريبة من إيران.
عند انتهاء العمليات العسكرية وإعلان الانتصار على التنظيم الإرهابي في كانون الأول/ديسمبر 2017 بدأت بعض الأصوات تطالب بعودة مقاتلي الحشد إلى حياتهم السابقة قبل الحرب، بينما تعالت أصوات مناهضة بوجوب الابقاء على فصائل الحشد، لأن الجيش العراقي لم يزل بحاجة إلى دعم هذه الفصائل، بل ذهب بعض المغالين منهم مثل الأمين العام لحركة النجباء إلى المطالبة بحل الجيش العراقي واتخاذ فصائل المقاومة الإسلامية جيشا للعراق.
خطوات رئيس الحكومة حيدر العبادي التي اتخذها بشأن حصر السلاح بيد الدولة عبر هيكلة فصائل الحشد ومحاولة دمجها بقوات الشرطة والجيش كانت خجولة ومترددة، بل ويمكن وصف سلوك الرجل بالتخوف من الاحتكاك بالخطوط الإيرانية الحمراء. وكانت كل القوى السياسية تعد العدة لدخول الانتخابات البرلمانية عام 2018 ومن ضمنها كانت فصائل المقاومة الإسلامية المدعومة إيرانيا التي تجمعت في كتلة الفتح التي يقودها هادي العامري، فما كان من العبادي إلا المطالبة بالتمسك بالدستور الذي يمنع القوات المسلحة من خوض العملية السياسية، وبما أن فصائل كتلة الفتح مسلحة وباتت جزءا من القوات المسلحة العراقية، لذا لابد من إعلان موقف واضح لهذه الفصائل وقطع ارتباط الأجنحة العسكرية لها بالمنظمات السياسية، لكن هذا الأمر لم يتم. وخاض الجميع الانتخابات، وفازت بحصة الأسد في البرلمان كتل الفصائل المسلحة، سائرون التابعة للصدر، وجاءت كتلة الفتح ثانية.
تشكلت حكومة عبد المهدي بالتوافق بين سائرون والفتح دون إعلان الكتلة الأكبر في البرلمان، ولم يمض على الحكومة عام واحد حتى أطاحت انتفاضة شعبية حكومة عبد المهدي، إذ انطلقت التظاهرات كحركة مطلبية في شهر تشرين الأول/اكتوبر، وسرعان ما واجهتها الحكومة بعنف مفرط أدى إلى قتل أكثر من 120 ضحية من الشباب المنتفض في الأيام الأربعة الأولى من التظاهرات، بعضهم قتل برصاص قناصين لم يعرف انتمائهم لأي فصائل حتى الآن، كما فشلت لجنة التحقيق التي شكلتها الحكومة بتقديم أجوبة مقنعة لما حدث، لكن الكثير من أصابع الاتهام بقتل المتظاهرين وتصفية واعتقال الناشطين وجهت إلى ميليشيات وفصائل المقاومة الإسلامية المدعومة إيرانيا، والداعمة بدورها لحكومة عبد المهدي والمتحكمة بقراراتها، بالإضافة إلى الاشاعات التي وجهت إلى الجنرال قاسم سليماني شخصيا واتهمامه بلعب دور محوري في سياسة الحكومة التي حاولت فض التظاهرات بالقوة من دون ان تنجح في ذلك حتى وصل عدد الضحايا اليوم إلى 600 شاب وأكثر من 25 ألف جريح، بعضهم إصابته تسببت في إعاقة دائمية.
خلط الأوراق
طوال ايام انتفاضة تشرين كان هناك سعي محموم من ميليشيات ولائية مقربة من طهران لخلط الأوراق وسحب الاهتمام من ساحات الاعتصام عبر تنفيذ عمليات ضد المصالح الأمريكية في العراق، بناء على اتهام الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بدعم ما أسمته (مؤامرة اسقاط العملية السياسية العراقية) وقد اتهمت الولايات المتحدة بعض الفصائل مثل كتائب حزب الله العراقي بتنفيذ عمليات إطلاق صواريخ مورتر وقذائف كاتيوشا وصواريخ قصيرة المدى على قواعد يتواجد فيها الجيش الأمريكي أو على السفارة الأمريكية. ومثلت عملية مهاجمة قاعدة “كيوان” العسكرية شمال غرب محافظة كركوك القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ قتل فيها مقاول أمني أمريكي، وجرح بعض الجنود الأمريكان يوم 27 كانون الأول/ديسمبر، فكان الرد الأمريكي قاسيا، إذ شنت غارات على معسكرات كتائب حزب الله العراقي في مدينة القائم الحدودية وبعض قواعد الحزب في الداخل السوري، وراح ضحية الهجوم الأمريكي 25 مقاتلا من مقاتلي حزب الله بالإضافة إلى عشرات الجرحى، من جانبه أعلن رئيس الحكومة المستقيل عادل عبد المهدي رسميا انه تم تبليغه بالضربة الأمريكية قبيل تنفيذها، إلا إنه لم يستطع اتخاذ الإجراءات التي توقف تنفيذها نتيجة إصرار الأمريكان، حسب وصفه.
رد فصائل المقاومة الإسلامية جاء يوم الثلاثاء 31 كانون الأول/ديسمبر، عبر تشييع جثامين ضحايا الهجوم من جماهيرهذ الفصائل ومريديها ومقاتليها في بغداد، وقد اقتحموا المنطقة الخضراء بسهولة بعد ان فتحت لهم بوابتها الجنوبية المطلة على الجسر المعلق في بغداد، لتحاصر الجموع الغاضبة السفارة الأمريكية وتبدأ بإعلان الاعتصام أمام السفارة، كما قام عدد من المهاجمين بحرق بوابات السفارة الخارجية في محاولة لاقتحامها، في مشهد ذكر بسيناريو احتلال السفارة الأمريكية في طهران عام 1979.
الأمريكان عززوا حماية سفارتهم في بغداد باستقدام 750 مقاتلا من قوات المارينز من الكويت تم انزلاهم في السفارة، المعتصمون قرروا بناء الخيم والاعتصام أمام السفارة حتى تقر الحكومة والبرلمان قانون اخراج القوات الأمريكية من العراق، وكان على رأس التظاهرات قيادات المقاومة الإسلامية مثل نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس الذي اعتبر الرأس المنفذ للهجوم على السفارة يحيط به قيس الخزعلي وهادي العامري وفالح الفياض، رئيس هيئة الحشد، بالإضافة إلى أعضاء برلمان وسياسيين من كتلة الفتح.
عادل عبد المهدي طلب من المعتصمين فض الاعتصام ومنح الحكومة الفرصة لحل الازمة عبر الإجراءات السياسية، وهذا ما تم فعلا إذ تم نقل مكان الاعتصام إلى شارع ابي نؤاس خارج المنطقة الخضراء. وساد الإعلام السياسي القريب من فصائل المقاومة الإسلامية نوع من التبجح مفاده إن فصائل المقاومة الإسلامية قد كسرت هيبة الأمريكان، وكتب على جدران السفارة شعارات تهاجم أامريكا وتعلن الولاء لإيران بعبارات مثل “سليماني قائدي”.
الرد الأمريكي على الإهانة جاء صاعقا وسريعا وغير متوقع، إذ قامت القوات الأمريكية بتنفيذ عملية اغتيال بطائرات مسيرة قصفت سيارة تضم الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وبعض قيادات الحشد، وهم خارجون من مطار بغداد الدولي فجر يوم الجمعة 3 كانون الثاني/يناير، مما فتح باب المواجهة على مصراعيه، وتوقع تصعيد الحرب الأمريكية الإيرانية مع بداية العام الجديد. فهل سنشهد حربا شاملة بين الطرفين؟ أم سيكتفي الطرفان بضربات محدودة لحفظ ماء الوجه؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.
القدس العربي