لا يكترث الرئيس الروسي، بوتين، لخاطر معجبيه ومحبّيه في المشرق العربي، ومنهم من سمّاه أبو علي. يصر، وفي كل الظروف، على إحراجهم أمام مواطنيهم الذين يقفون على الضفة الأخرى، بتصرّفاته التي تذكّرهم دائماً بتدنّي أهميتهم، من خلال تقزيم دور زعمائهم (أيقوناتهم) وفعاليتهم، والإصرار على أن ما حصل في سورية من انتصار أنتجته عقول الروس وسواعدهم، وليس الآخرون سوى مشجّعين على مدرجات ملعب العمليات. ولا يكترث بوتين لتشاوف هؤلاء على مواطنيهم، وتعييرهم بالمهزومين والتكفيريين، وأحيانا كثيرة، بالعملاء للخارج، مقابل وصف أنفسهم تنويريين ووطنيين وأصحاب السيادة، وبأنهم جزء من محور عالمي يمتد من الصين وروسيا إلى فنزويلا، ويعمل على تغيير قواعد النظام الدولي الحالي، وتسيّده في السنوات المقبلة. لا يراعي بوتين مشاعرهم، حتى لو بلفتة بسيطة عبر تخفيض كمية الإذلال الموجهة لأحد رموزهم، بشار الأسد.
ما لا يعيه هؤلاء أن بوتين، السياسي الذي ترعرع في أجهزة المخابرات السوفييتية، وأدار السياسة الروسية أكثر من عشرين عاماً بأسلوب العرّابين ورجال المافيات، ليس لديه قلب. وبالتالي لا يعرف العواطف ومراعاة المشاعر، لا يرى هؤلاء المعجبين ورموزهم، وهو حينما يتعمّد إظهار بشار الأسد بهذه الصورة الهزيلة، فالقصد توظيفها في سياق إبراز أهميته لاعبا دوليا كبيرا في ساحة الصراع العالمية وتنافس المشاريع الجيوسياسية، وحسابات الأرصدة الاستراتيجية.
هنا تختلف حسابات بوتين، وتختلف الجهات التي يرغب بإيصال الرسائل إليها، مثل هذه الصورة التي ظهرت في دمشق، لرئيس دولة أجنبية يستضيف في مقرّ قواته من يفترض أنه رئيس هذه الدولة، هي إشارة إلى أولئك الذين يفاوضهم بوتين على دور روسيا وحصصها ومكانتها التي يجب أن تكون في النظام الدولي، فهو، وفق هذه الصورة، يقبض على دول، بكامل جغرافيتها وديمغرافيتها، يحوّل زعماءها إلى ألعوبة بيديه، ويتحكّم بمستقبلاتهم ومستقبلات دولهم. ولهذه الصورة أثمان، خصوصا أنه يتعمد التقاطها، وقاسم سليماني، الحاكم السابق للمشرق العربي، لم يوار في التراب بعد، وكأنه يقول الأمر كله لي الآن، لا شريك لي في سورية، ولم تعد إيران التي بات جنودها في العراء تلك الليلة، خوفاً من الاستهداف الأميركي لهم، ندّاً أو منافساً لي أنا الذي ينزل إلى مقر قواته، وليس ضيفاً على بشار في قصر ضيافته.
لم يزر بوتين، خلال نزوله إلى دمشق، أي مكانٍ له رمزيةٌ سياديةٌ سورية، حتى لا يمنح بشّار
“روسيا لا تقطف الانتصارات الدبلوماسية والعسكرية من الأشجار لتهديها لرجال النظام السوري من دون مقابل” دور المضيف ولو لحظة. وطوال فعاليات الزيارة وبرنامجها كان الأخير مجرّد مرافق لا لزوم له. ومنذ لحظة نزول بوتين إلى دمشق خلع بشار صفته الرئاسية وسار في شوارع دمشق وزار أمكنتها التي حرم منها منذ بداية الثورة، متعاطياً مع الأمر أنه فرصة للترويح عن النفس وزيارة دمشق القديمة.
وليس بعيداً عن هذا السياق، ثمّة بُعد رمزي للزيارة، كان حاضراً في ذهن بوتين، فالرجل يصل إلى دمشق، في ختام مرحلة جرى خلالها نقل ملكية أصول الدول السورية لثرواتها إلى الطرف الروسي، تحت عناوين متعدّدة: استثمار أو تطوير أو استئجار، حيث وضعت الشركات الروسية يدها على حقول النفط والغاز والفوسفات، والموانئ، والمطار الدولي، ومصنع السماد، بالإضافة إلى السكك الحديدية، حتى أن هدف حربه أخيرا على إدلب السيطرة على طريق التجارة الدولي الرابط بين حلب والساحل السوري، ويفاوض تركيا على إكمال السيطرة على الطريق الذي يصل سورية بالعراق، من منبج إلى القامشلي. ومن شأن الطريقين، وحسب تقديرات صحيفة أزفستيا الروسية، تأمين خمسة مليارات دولار عوائد ورسوم ترانزيت.
هذه الثروات التي كانت تتقاسمها عائلتا الأسد ومخلوف والمقربون منهما، ستكون ثمن بقاء هؤلاء على قيد الحياة، وثمن عدم مثولهم أمام محاكم جرائم الحرب، تلك التي كلفت روسيا أكثر من 14 فيتو في مجلس الأمن، وروسيا لا تقطف الانتصارات الدبلوماسية والعسكرية من الأشجار لتهديها لهؤلاء من دون مقابل، حتى ثرواتهم التي لم تعد تجد أمانا سوى في بنوك روسيا سيكون لبوتين وأزلامه حصة فيها. وبخصوص السؤال عن كيف لسورية أن تخرج من دمار الحرب الرهيبة، ما دامت ثرواتها وأموالها قد انتقلت إلى روسيا، فالجواب في الصورة التي التقطها بوتين في دمشق، بوصفه الحاكم الفعلي لسورية، وعلى الآخرين أن يطمئنوا لاستثماراتهم في سورية المستقبلية.
يزور بوتين دمشق في نهاية مرحلة، يعلن ويدشن مرحلة جديدة، عنوانها أن سورية أصبحت إقليماً روسياً، بكل ما تعنيه الكلمة، من اقتصاد وسياسة وأمن وجيش، وحتى التمثيل الخارجي والتفاوض مع اللاعبين الآخرين في الشؤون السورية، لم يعد ثمّة شيء تملكه القيادة السورية من الأصول السورية يدلّ على أن لهذه البلاد خصوصية أو استقلالية عن روسيا، لا السماء ولا البحر ولا الأرض، أما الأشخاص، فهم من رأس النظام إلى أصغر جندي مجرّد موظفين عند بوتين يستدعي من يشاء منهم ويشرّف من يريد بلقائه.. بالمناسبة، أين وزير الخارجية، وليد المعلم، من هذه الزيارة؟
غازي دحمان
العربي الجديد