ما إن أطلق الباحث والجغرافي الفرنسي كريستوف غيلوي Christophe Guilluy كتابه “لا مجتمع ـ نهاية الطبقة الوسطى الغربية” الصادر عن دار Flammarion قبل حوالي العام، حتى تصدّر واجهات المكتبات فر فرنسا وحقّق نجاحاً هائلاً بنسبة المبيعات، حيث تسارع كثيرون من أبناء المجتمع الفرنسي إلى اقتنائه باحثين بين صفحاته عن حلول لأزماتهم الاجتماعية والاقتصادية الراهنة التي سبّبتها سياسات حكومية في العقود الماضية.
سلّط غيلوي الضوء في كتابه على ما أسماه “مذبحة” الطبقات الوسطى في الغرب، مقتبساً عنوانه الرئيسي من عبارة رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر (1925 ـ 2013) عندما قالت في أكتوبر 1987: “لا يوجد شيء اسمه مجتمع، هناك رجال ونساء وأفراد وهناك عائلات”، وأشار إلى أن هذه السيدة الحديدة لم تكن تعرف ربما أن كلماتها ستصف الوضع العام للمجتمع الغربي بعد ثلاثين عاماً، حيث أنه تمّ تبنّي خططها السياسية والاقتصادية من قبل جميع الطبقات الحاكمة في الغرب.
وبيّن بما لا يقبل الشك، أن مشروع السيدة تاتشر قد تجاوز المتوقع. فلم تقتصر تكلفة الإصلاح الاقتصادي الذي خطّطت له على التضحية بالطبقة العاملة على مذابح العولمة، بل تعدّى الأمر التضحية بالبنية المجتمعية ككل. إن السياسات الاقتصادية التي اتبعتها تاتشر بما فيها خصخصة كبرى الشركات البريطانية فاتحةً المجال أمام الأثرياء وأسياد المال بالاستثمار من خلال القوانين الجديدة التي مررتها في البرلمان بما يدعم النظام الليبرالبي. فضلاً عن صراعها الشرس مع نقابات العمال وتقليصها من العلاوات التي كانت تحصل عليها العائلات ذات الدخل المحدود والعائلات ذات الدخل المتوسط. الأمر الذي أدّى إلى تباين طبقي كبير، وصرنا أمام نموذجين فقط: طبقة ثرية وطبقة فقيرة. أما الطبقة الوسطى فلم يعد لها وجود.
قسّم غيلوي كتابه إلى ثلاثة أجزاء، الأول: على انقاض الطبقة الوسطى ـ ظهور عالم الأطراف، الثاني: اللا مجتمع، والثالث: القوة الناعمة للطبقات الشعبية. وقد تحدّث فيها جميعها حول كيف تخلّى العالم عن الصالح العام في خططه الآنية والمستقبلية، وهو ما أغرق الدول الغربية في فوضى مجتمعية كبيرة. فالفصل التاريخي بين قمة المجتمع وطبقاته الدنيا يتجلّى في القضاء على تلك الفئة التي تحمل في ممارساتها اليومية وتقاليدها المتوارثة الحياة الأمريكية والغربية.
من هي الطبقة الوسطى؟
لم يقدّم غيلوي تعريفاً واضحاً يحدّد مفهوم الطبقة الوسطى من وجهة نظر علمية ومسحية دقيقة، معترفاً بأنه مفهوم ما زال غامضاً بعض الشيء. لكنه حاول أن يشرح خصائصها والميزات والعوامل التي تجمع بين أبنائها في المجتمع الفرنسي، والتي يأتي في مقدمتها أن الشعور بالانتماء لهذه الطبقة، لا يعتمد على حد الدخل أو على الفئات الاجتماعية والمهنية، إنما يعتمد أولاً وقبل أي شيء على الشعور بقيم الأغلبية وبأن هؤلاء الناس هم جزء من حركة اقتصادية واجتماعية وثقافية.
وإذ يتحدّث عن انهيار الطبقة الوسطى، إنما يتحدّث عن حوالي 50 ـ 60 % من نسبة سكان المجتم، وبالتالي هو يحذر من انهيار المجتمع ذاته. وللأسف، فإنه وعلى ما يبدو، قدّر للطبقة الوسطى أن تكون طبقة متغيرة باستمرار في عملية التكيف مع المعايير الاقتصادية والاجتماعية الجديدة لمجتمع معولم. مع العلم أن جميع الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي اجتاحت العالم الغربي طيلة نصف قرن من الزمن، قد تمّ تبريرها باسم الصالح العام.
التفاؤل بالقوة الناعمة
أوضح غيلوي أنه في ظل التشظيات المجتمعية والاقتصادية الحاصلة، تسعى الطبقات الشعبية إلى المقاومة من أجل الحفاظ على وجودها المالي والاجتماعي والثقافي. وإن الموجة الشعبية السّاخطة التي تنتشر في أرجاء عديدة من العالم الغربي، ليست سوى قوة ناعمة الهدف منها إجبار قادة العالم على تصحيح الأوضاع لصالح المواطن في المستقبل القريب..
وقال: “حالياً توجد قوة ناعمة غير مرئية تسهم في انهيار الهيمنة الثقافية للطبقات السائدة والعليا. ففي جميع الدول الغربية صرنا نشهد تحولاً في الأفكار والسلطة. هذه القوة الناعمة للطبقات الشعبية تجبر السياسيين ووسائل الإعلام على معالجة الموضوعات المحظورة، ما يعمل على عودة الحركة الحقيقية للمجتمع”.
إذن، وباعتباره يقصد بالحركة الحقيقية حركة الأغلبية، فإن الطبقات الشعبية هي التي ستجبر ـ غداً ـ القوى المهيمنة على النظر إلى غالبية الشعب والاستماع إلى مطالبهم وتوجيه أهداف السياسة الراهنة لصالحهم. بالإضافة إلى أنها كما يقول جاك جوليارد ستعمل على الخروج من نظام تُمارس فيه الديمقراطية حالياً من دون الشعب.
حاول غيلي أن يشرح التوزّع الجغرافي والديموغرافي الجديد الذي أوجدته السياسات الغربية منذ ثمانينات القرن الماضي. وحذّر من تنامي أطراف المدن الكبيرة والعواصم أو ما يعرف بضواحيها التي تستقبل الفئات الاجتماعية المهمّشة من الفرنسيين والمهاجرين الشرعيين أو غير الشرعيين. مع الإشارة إلى أن صفوف الطبقات الشعبية آخذة بالتضخم: عمال، موظفون، متقاعدون، عاطلون عن العمل، فلاحون والعديد من طالبي اللجوء واللاجئون والحاصلون على حق الحماية من الدولة.
عند هذه النقطة استشهد بمصطلح “الكسر الاجتماعي” الذي طرحه الفيلسوف والمؤرّخ مارسيل غوشيت عندما سلّط الضوء في مطلع تسعينيات القرن العشرين على الانقطاع التاريخي الخطير بين طبقات المجتمع. مبيناً تحول المناطق البعيدة عن العواصم، أي في المدن الصغيرة والبلدات المتوسطة الحجم والضواحي والمناطق إلى أماكن تجسّد الآثار السلبية للنموذج الاقتصادي المطبّق، خاصةً وأن أبناء الطبقات العليا يحتلون العواصم ومراكز المدن وحدهم.
العودة إلى المجتمع
وجّه غيلوي رسالة في ختام كتابه قال فيها: “دعونا نساعدهم على الاندماج في المجتمع الوطني”، ويقصد بـ “هم” الأثرياء والسادة من الطبقة الحاكمة والطبقة العليا في جميع المجتمعات الغربية الذين يرفضون الاندماج ويفضّلون التقوقع على أبناء طبقتهم دون سواها، ناكرين الثقافة الجمعية التي لطالما شكّلت المجتمع السليم عبر التاريخ الغربي.
أما حول الاندماج، فالعملية من وجهة نظره واضحة تقتضي بكل شفافية إعادة الطبقات العليا إلى طريق التعايش المتكامل بين جميع أفراج المجتمع، قاصداً بهذا القول تفعيل حركات الطبقات العاملة وإعادة زمام الأمور إليها. حيث أشار إلى أن عودة هؤلاء إلى المجتمع الوطني ليست فرضية أو تنظيراً، إنها ضرورة إذا ما أردنا تجنب التوترات والعنف والكثير من الخسارات. هذه العودة إلى شرائح الناس، إلى الديمقراطية، لم تعد السبيل الوحيد فقط للخروج من نموذج “اللامجتمع”، لكنها في الوقت نفسه هي شرط أساسي لتطوير نموذج بيئي واجتماعي وسياسي واقتصادي مستدام. إنها بكل بساطة شرط من شروط بقاء المجتمعات الغربية على قيد الحياة.
ولفت النظر إلى أن هذه العودة المفترض أن تكون إلى المؤسسات الشعبية التي ينتمي إليها أفراد يسعون إلى العيش الحر والكريم من خلال العمل بأجور جيدة مضمونة دون التنازل عن حقوق المواطنة.
ومن أجل أمثلة واقعية عن فاعلية جميع الطبقات في المجتمع وكيفية خلق نظام يطبّق هذه الاستراتيجية، عاد غيلوي بالتاريخ إلى فترة الثلاثينات المجيدة (1945 ـ 1975) التي عاش خلالها الفرنسيون وغيرهم من ابناء الدول الغربية المتقدمة، نمواً اقتصادياً كبيراً. وفي هذه الفترة شعر جميع أبناء طبقات المجتمع من العامل إلى المدير الأعلى، بأنهم مندمجون معاً ويستفيدون معاً من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى بذات القدر وفي الوقت نفسه.
من جهة أخرى، أدّت فترة الثلاثينيات المجيدة إلى احتلال كل الفئات الشعبية من عمال وموظفين وغيرهم، مكانة مركزية على رقعة الشطرنج السياسية لأنها كانت تحمل قيم المجتمع بأسره، وتشكّل مرجعية ثقافية ليس للطبقات الحاكمة فقط، ولكن للوافدين الجدد أيضاً وحتى أولئك المهاجرين منهم.
ردود الفعل
تباينت ردود فعل قراء الكتاب بعد انتهائهم من صفحته الأخيرة، ونخصّ بالذكر أولئك السياسيين والمعنيين بالموضوع من باحثين وخبراء. وفي حين ذهبت بعض وسائل الإعلام الفرنسية إلى استعراض الكتاب بصورة موضوعية دون إطلاق الأحكام على منطق الكاتب ومنهجهه، سعت أخرى على لسان صحفييها إلى التعليق على منطقية المعلومات والتحليلات التي جاءت داخل الكتاب، وتحديداً فيما يتعلّق بـ “القوة الناعمة” التي جسّدت في الشوارع الفرنسية على أرض الواقع بحركة “السترات الصفراء”.
في ذات الخصوص، وجد كثيرون أن كريستوف غيلوي قدّم تحليلاً موثقاً حول هوية المجتمع الغربي الليبرالي الجديد. فضلاً عن كونه أرفق بعض الإحصائيات اللازمة لدراسة الإشكالية ديموغرافياً وجغرافياً واقتصادياً وسياسياً.
وبالعموم لا يمكن الحكم على منهجية الكتاب وما أورده من نظريات في الماضي والحاضر وللمستقبل، دون قراءته ضمن مجرى الأحداث العالمية ككل، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
رضاب نهار
اندبندت العربي