قال وزير الدفاع البريطاني بن والاس، خلال مقابلة مع صحيفة «صنداي تايمز» إنه على بريطانيا الاستثمار في المعدات الدفاعية؛ كي يقل اعتمادها على التغطية الجوية وطائرات التجسس الأمريكية في الصراعات في المستقبل. يأتي هذا التصريح في إطار تدوير الثنائية التي تحكم العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة؛ ثنائية الاستقلال والاعتماد، كما يُفهم من قول هنري كيسنجر، في كتابه «النظام العالمي»، «مع انهيار القوَّة السوفييتية بات العالم متعدِّد الأقطاب، إلى حدٍّ معيَّن، وباشرت أوروبا العمل لاجتراح هُويَّة مستقلَّة».
منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو ينمّي المخاوف الانعزالية بمواقفه وأقواله، وتحت شعار «أمريكا أولًا»، ما يفضي إلى التجافي مع أوروبا، ولاسيما ألمانيا وفرنسا، من دون أن يسحب هذا التعامل على روسيا، مع أن الخطر الروسي لم يزل، وتدخُّلات موسكو في دول أوروبية لها شواهد عدّة، منها اتهامها بالتدخُّل في الانتخابات التي تجري في دول الاتحاد الأوروبي، واتِّهام الحكومات الغربية لموسكو بالوقوف وراء الهجوم بغاز الأعصاب نوفيتشوك، استهدف الضابط الروسي السابق، والعميل المزدوج لدى جهاز الاستخبارات البريطاني، سيرغي سكريبال وابنته. وقد تنامت مخاوف الاتحاد الأوروبي من توسُّع نفوذ روسيا، بعد ضمّ موسكو لشبه جزيرة القرم، عام 2014، خاصة أن روسيا قد أجرت خلال الأعوام القليلة الماضية الكثير من المناورات الضخمة في منطقة بحر البلطيق. وعلى إثر ضمِّ موسكو للقرم فرَض الاتحادُ الأوروبي حُزمةَ عقوباتٍ على روسيا، وفي شهر يونيو/حزيران الماضي، وافق قادة الاتحاد على تمديد العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، حتى عام 2020.
إلا أن كل تلك العوامل لم تَقوَ على دفع الاتحاد الأوروبي على الاستمرار في صيانة حلفه مع أمريكا؛ فقد طفت على السطح المخاوفُ الأوروبية من الولايات المتحدة؛ على وَحْدتها، وعلى مصيرها، وربما عزَّز تلك المخاوف طبيعةُ العلاقة الخاصة التي تجمع الرئيس الأمريكي ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإفساح واشنطن المجال لموسكو في سوريا، أو امتناعها عن العمل الجِدِّي ضد نفوذها المتزايد هناك. وظهرت نزعة ترامب تجاه أوروبا في مؤشِّرات لفظية وعملية؛ فمِن اللفظية تصريحُه البالغ الصراحة والحدّة الذي أدرج فيه أوروبا في الدول العدوَّة للولايات المتحدة، وفي أجدد هجماته على الاتحاد الأوروبي قال: «إن الكثير من الدول تفرض علينا رسومًا مرتفعة بشكل غير عادي، تخلق حواجز تجارية مستحيلة، سأكون صادقاً، الاتحاد الأوروبي صعب للغاية في الحواجز التجارية، ومن نواحٍ كثيرة أسوأ من الصين».
حذّر الأوروبيون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، من أنّ الحروب التجارية ستدمِّر الاقتصاد العالمي
ومن أجل إضعاف أوروبا وإرباكها شجَّع ترامب خروجَ بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، متعهِّدًا بالتوصُّل إلى «اتفاق تجاري كبير جدا» مع المملكة المتحدة، وواصفًا بريطانيا بعد البريكست بأنها «سوف تتخلَّص من مرساةٍ معلَّقة في كاحلها؛ لأن ذلك هو مشكلتهم الحالية». وترامب يستهدف أوروبا بحربه التجارية؛ ليضعف، بالدرجة الأولى، دولها ذات الاقتصاد الأكبر، وفي المقدِّمة ألمانيا، وقد سُجِّل، فعلا، انخفاضٌ ملحوظ في الأنشطة الصناعية في ألمانيا، التي تُعَدُّ المُورِّد العالمي الرائد للآلات والمعدَّات التكنولوجية، ولذلك حذّر الأوروبيون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، من أنّ الحروب التجارية ستدمِّر الاقتصاد العالمي. كما عُرف ترامب بانتقاده للحلف الأطلسي، وبتشكيكه بجدواه. وكثيرا ما طالب الحلفاء برفع مساهمتهم في ميزانية الحلف، بدلا من الاتِّكال على ميزانية الدفاع الأمريكية الهائلة، ووجّه ذلك خصوصا لألمانيا. وبما أنه لا بدّ أن يكون لكلِّ فعل ردُّ فعل، وبما أن الخطر الذي تستشعره أوروبا كبير، حتى وصل بوزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى «إطلاق صيحة فزع» على مصير أوروبا، معتبرا أنها باتت «مهدَّدة بالتفكُّك والخروج من التاريخ»، بل إنه اتَّهم أمريكا، بالاسم، (إلى جانب الروس والصينيين) بتغذية نزعات التفكُّك في أوروبا؛ لمنعها من أن تظلّ «منظَّمة وقويَّة بإمكانها الدفاع عن مصالحها». فكان لا مفرّ أمام دول الاتحاد الأوروبي، ولاسيما ألمانيا وفرنسا، من استجماع عوامل التماسُك، تحت شعار «نحو أوروبا قويّة»، وكان من أجدد تجليَّات ذلك قرارُ حكومات الاتحاد الأوروبي منْح الضَّوْء الأخضر لـ13 مشروعًا دفاعيًا جديدًا في خطوة تهدف لتطوير المزيد من الأسلحة، بشكلٍ مستقلٍّ عن الولايات المتحدة. جاء ذلك بعد تأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الرغبة في تعاون أعمق في مجال الدفاع بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، عندما قال: «إن حلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة دخل مرحلة موت سريري». علمًا بأن التفاوض حول تلك المشاريع استغرق عدَّة أشهر قبل الموافقة عليها، ومع أن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل لم توافق على توصيف ماكرون الآنف الذكر لحلف الأطلسي. وهذا التطوُّر نحو الاستقلال عن أمريكا عسكريا، يذكِّرنا بدعوة ماكرون بإنشاء جيش أوروبي موحَّد.
اتجهت الأمور إلى هذا المنحى بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، وتسلُّم نقيضُه، في هذه الجزئية؛ ترامب، على الرغم من كون الأخير يحافظ على الخطوط العريضة في مجمل السياسة الأمريكية الخارجية، كما في الانكفاء عن صراعات الشرق الأوسط، والتحوّل نحو دول المحيط الهادئ وآسيا واحتواء الصين، ففي زيارته الأخيرة للصين، قبل نهاية فترة رئاسته بخمسة أشهر، بذل أوباما جهدا كبيرا في إقامة علاقات أوثق مع دول جنوب شرق آسيا، وسعى جاهدا؛ لتهدئة قلق شركاء أمريكا من القدرات الاقتصادية والعسكرية للصين، إلا أن ترامب لم يواصل مع أوروبا أسلوب أوباما. والسؤال: كيف يمكن أن تنعكس هذه التشكلات الجديدة، في العلاقة الأمريكية الأوروبية على قضايانا في المنطقة؟ من المفترض أن يحفِّز هذا الابتعادُ الأوروبيُّ عن أمريكا، دولا أوروبية كبرى على مزيدٍ من النأي بنفسها عن طريقة التعاطي الأمريكي مع أزمات المنطقة وصراعاتها؛ وهي لم تكن على تطابق تام ودائم معها، من قبل.
ولكن انشغال تلك الدول الأوروبية الكبرى بترميم نفسها وعلاقاتها الوحدوية، وإعادة تشكيل قوّتها بمعزل، أو بتقليل الاعتماد على القوَّة الأمريكية، من شأنه أن يُضعِف حظوظها في التأثير في السياسة الخارجية، ومنها منطقتنا العربية، على الرغم من تاريخ علاقاتها الطويل نسبيا إذ ما قورنت بأمريكا، وعلى الرغم من قربها الجغرافي. وكانت أوروبا قد أظهرت حماسة قليلة تجاه مبادرات أمريكية أرادت إشراكها في حماية الخليج، ثم إنها كانت خارج التحالُف العسكري البحري، الذي شكّلته واشنطن مؤخَّرًا، لحماية الملاحة في الخليج، واقتصر على ستِّ دول إلى جانب الولايات المتحدة، وهي السعودية والإمارات والبحرين وبريطانيا وأستراليا وألبانيا. ويبقى التكهّن بالمدى الذي قد يبلغه هذا التباعُد بين أوروبا وأمريكا مرهونًا بعوامل عدّة، لعل مِن أهمِّها، ما ستسفر عنه الانتخاباتُ الرئاسية الأمريكية المُقرَّرة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ونتائج الحرب التجارية التي لا يبدو أن ترامب يعزم التراجُع عنها، على الاقتصاد الأمريكي.
أسامة عثمان
القدس العربي