تبعات الانسحاب الأميركي من العراق

تبعات الانسحاب الأميركي من العراق

أدّى اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس إلى تأجيج توتر العلاقات بين العراق والولايات المتحدة إلى درجة الغليان، ففي الخامس من كانون الثاني يناير الحالي، صوت مجلس النواب العراقي في جلسة استثنائية بحضور رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على قرار يلزم الحكومة بالعمل على إنهاء طلب المساعدة المقدم منها إلى التحالف الدولي بقيادة واشنطن، وإنهاء أي تواجد للقوات الأجنبية على الأراضي العراقية.
من جهتها، أعربت الخارجية الأمريكية عن “خيبة الأمل” إزاء هذا القرار داعية السلطات العراقية إلى إعادة النظر فيه، وأعلنت واشنطن، التي تنوي الإبقاء على قواتها في العراق، أنها بصدد دراسة فرض عقوبات اقتصادية على العراق.
وفي حال فرضت إدارة ترمب عقوبات اقتصادية فهذا يعني تقويض للاقتصاد العراقي.
ونتساءل هنا.. ما هي التبعات الاقتصادية والعسكرية والسياسية التي ستترتب  في حال انسحاب القوات الأمريكية من العراق؟
وفي هذا السياق نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريرا لأليسا روبن، مديرة مكتبها في بغداد، أكدت فيه أن العراق يوجد بين شقي الرحى، في ظل احتدام التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، والذي بلغ ذروته إثر اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني الجنرال قاسم سليماني في هجوم بطائرة مسيرة أمريكية الأسبوع الماضي بالقرب من مطار بغداد الدولي.
وأكدت الكاتبة تصويت البرلمان العراقي بعد حادثة مقتل سليماني لصالح إجلاء القوات الأمريكية، فيما بدت رسالة من حلفاء طهران في بغداد، فإن بعض المسؤولين العراقيين يرون أنها ستكون وبالا على العراق من كل النواحي، وفي مقدمتها الاقتصادية والأمنية، وعلى رأسها عودة تنظيم داعش الإرهابي.
وتشير إلى أن العقوبات الاقتصادية التي توعد ترمب بفرضها على بغداد، في حال جلاء القوات الأمريكية، كما تريد طهران وأتباعها في العراق، لن تطال العراق لوحده، بل ستمتد تأثيراتها إلى إيران أيضا، نظرا لتشابك اقتصاد البلدين، بل والاستفادة التي تحصل عليها طهران أكثر من بغداد.
وإن لم تركز الصحيفة على هذا البعد، فإن استفادة إيران من الوجود الأمريكي في العراق كان أساسا عندما أسقطت نظام صدام حسين، الذي كان شوكة في حلق نظام “الولي الفقيه”، وجاءت بحلفاء طهران للحكم في بغداد، واللافت حينها أن واشنطن بررت غزو العراق تحت الزعم الكاذب لامتلاك نظام صدام لأسلحة دمار شامل، وبرنامج نووي، والذي كانت تعلم أنه غير موجود، فيما كانت طهران حينها تطور برنامجها النووي!
تقول الكاتبة، إن مسؤولين عراقيين بارزين ودبلوماسيين وباحثين ذكروا أن جلاء القوات الأمريكية سيجبر العراق على الارتماء في أحضان إيران، مما سيحرمه من الدولارات الأمريكية ويعزله عن الغرب.
وتشير إلى أن عقوبات ترمب قد تحرم العراق من المصدر الرئيس الذي يغذيه بالدولارات، لفرضية تجميد حسابه لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في نيويورك.
وتنوه إلى أن إيرادات العراق من مبيعات النفط مودعة في ذلك البنك، ودرجت الحكومة على السحب منها لدفع رواتب الموظفين وسداد التزاماتها التعاقدية الأخرى.
وتذكر الكاتبة كذلك أن الولايات المتحدة قد تلجأ أيضا لإلغاء الإعفاءات التي تتيح للعراق شراء الغاز الإيراني الذي تعتمد عليه الدولة في تشغيل مولدات الكهرباء بالجنوب، وفي توفير ما لا يقل عن 35% من إمدادات الطاقة اللازمة لعموم البلاد، مما قد يذكي أوار الاضطرابات بالجنوب حالما ترتفع درجات الحرارة مما سينجم عنه نقص في إمدادات الكهرباء على نحو ما حدث عام 2018.
وسيشكل فرض الحصار على النفط العراقي ضربة موجعة للبلاد، خصوصاً أن ريع الصادرات النفطية يقدر بنحو 90% من واردات الموازنات السنوية، والعراق لا يزال يعاني من 40 سنة متواصلة من الحروب والحصار الدولي والإرهاب وأسوأ ظواهر الفساد العام والبطالة.
سيترك الحصار بصماته على الصادرات النفطية العراقية، ما سيعني انخفاض الصادرات العراقية نحو 3.2 مليون برميل يومياً، كما سيعني الحصار على العراق واشتداد المعارك على أراضيه، انسحاب الشركات النفطية العاملة هناك حالياً، وبالفعل، فقد بدأت بعض الشركات الأميركية العاملة سحب موظفيها الأجانب، مثل «إكسون موبيل» من الجنوب و«شيفرون» من الشمال، الأمر الذي سيؤخر من تطوير طاقة العراق الإنتاجية البالغة حالياً نحو 5 ملايين برميل يومياً (ثاني أكبر دولة منتجة في منظمة «أوبك»).
إلى جانب قيمة العراق الجيوستراتيجية والسياسية، تُعتبر هذه الدولة اليوم من كبرى الدول المصدّرة للنفط في العالم، مع احتياطيات ضخمة على المدى الطويل، وإذا بقي الوجود الأمريكي على ما هو عليه، فسوف تجني اقتصاديات الولايات المتحدة والعراق، والاقتصاد العالمي هذه الفوائد معاً، ولكن إذا غادرت الولايات المتحدة، سوف تزداد فعلياً سيطرة إيران على موارد الطاقة والموارد المالية الضخمة، وتحول دون استخدامها في مشاريع التنمية العراقية لكي تتجنب العقوبات وتدعم طموحاتها بالهيمنة إلى حدٍّ كبير.
أما عسكريًا، من الضروري أن يبقى للولايات المتحدة وجودٌ عسكري في العراق، مهما كان متواضعاً، لضمان هزيمة تنظيم داعش الإرهابي بشكل نهائي.
وفي المقابل، إذا أدّى مقتل سليماني إلى انسحاب القوات الأمريكية المنخرطة في العمليات المحلية ضد التنظيم، فسيشكّل ذلك ضربة كبيرة للحرب على الإرهاب، فحتى بعد أن خسر تنظيم داعش الإرهابي آخر معاقل خلافته المزعومة في آذار مارس 2019، كان لا يزال قادراً على تنفيذ 867 عملية إرهابية داخل العراق وحده خلال الفترة المتبقية من العام، ولا شك في أن عدد هذه الهجمات وشدتها سوف يزداد في غياب الضغط العسكري الذي تمارسه القوات الأمريكية والحليفة، كما أن العمليات المستمرة ضد المعاقل التي ينشط فيها التنظيم بنفس القدر في سوريا ستقوَّض هي الأخرى بشكل فتّاك، وتقدّر الأمم المتحدة أن تنظيم داعش، لا يزال يملك احتياطاً تصل قيمته إلى 300 مليون دولار لدعم حملته الإرهابية، بينما يشير المسؤولون الكرد إلى أن التنظيم أعاد اليوم رصّ صفوفه سراً في العراق متجهّزاً بـ”تقنيات وأساليب أفضل”.
لذلك طالب أحمد المساري، النائب في البرلمان العراقي والقيادي في جبهة الإنقاذ والتنمية بزعامة أسامة النجيفي، الإدارة الأمريكية بعدم سحب قوّاتها من العراق، خاصة المدن والمحافظات السُنية التي احتلها تنظيم داعش، وقال “نحن ككتل سنية لم نصوت في البرلمان على إخراج القوّات الأجنبية وسنقف بالضد منه اليوم وغدا بسبب المخاوف الحقيقية من عودة تنظيم داعش مجددا إلى مدننا السُنية في حال انسحب الأمريكيون، لأننا ما نزال بحاجة إلى دعمهم العسكري والاستخباراتي، ولأن مقاتلي داعش لايزالون يشكلون خطرا على أمن مناطقنا المحررة”.
وزاد: “الجانب الأمريكي لديه الإمكانية التكنولوجية لمواجهة الخلايا النائمة لتنظيم داعش التي تفوق في قدارتها القوّات العسكرية العراقية”.
وأضاف «إذا نجح الشركاء السياسيون في البلد بإخراج القوّات الأمريكية، فإن العرب السنة أمامهم خيار واحد لحماية أنفسهم ومناطقهم، وهو تطبيق نظام الفيدراليات، وذلك طلبا للدعم الدولي وتوفير حليف جديد واللجوء إليه حق دستوري ومشروع لحماية المكون والمدن المحررة، ومواجهة التحديات سواء كان التهديد من تنظيم داعش أو التوغل للميليشيات المسلّحة الموالية لإيران».
وأكد أن «صورة الأمريكيين في أذهان الشعب السني باعتبارهم قوّات احتلال اختلفت تماما، فهم الآن يرحبون بهم وينظرون إليهم كداعم حقيقي وصديق قوي في مواجهة النفوذ الإيراني والتنظيمات الإرهابية المسلحة».
وبين أن «لا يمكن إعادة إعمار المناطق التي دمرتها الحرب والدفاع عنها من أي شر محتمل، فضلا عن جلب المشاريع الاستثمارية وإنهاء البطالة وتوفير فرص العمل والوظائف للشباب العاطلين، إلا بتوطيد العلاقة مع الجانب الأمريكي فنحن نحتاج إلى مساعدتهم».
وأوضح: «ليس من حق الحكومة العراقية أن تطالب الولايات المتحدة الأمريكية بالانسحاب من العراق، لأنها حكومة تصريف أعمال ومنقوصة الصلاحية، وأن هذه القوّات جاءت في زمن حكومة كانت مكتملة رسيمة، لكن في حال حصلت انتخابات مبكرة ينتج عنها برلمان يشكل حكومة جديدة عن تلك الحكومة المنتخبة تدرس مصلحة العراق أين، هل في انسحاب الأمريكيين أم بقائهم».
وختم: «من المعيب على الطبقة السياسية الحاكمة التي تنادي الآن برحيل القوّات الامريكية في وقت رضي هؤلاء بالأمريكيين عندما كانوا محتلين فعليين للبلد».
سياسيّا، إذا بقيت القوات الأمريكية في العراق، فسوف تعزِّز بشكل كبير مكانة الولايات المتحدة في تلك البلاد، وتسهم في التصدي للنفوذ الإيراني المضر في جميع أنحاء المنطقة، ولكن خروجها يعني أن العراق سيصبح معرّضاً لخطر داهم بالانزلاق مجدداً إلى العزلة المدمّرة التي عاشها سابقًا، علماً بأنه سيكون حينذاك أقل قدرة على مقاومة السياسات الإيرانية الضارية.
وفي الواقع، أن معظم العراقيين يتوجّسون من هذه الفكرة، وعن وجه حق، وخير دليل على ذلك هو مئات آلاف المتظاهرين المناهضين لإيران الذين خرجوا إلى الشوارع العراقية خلال الأشهر الأخيرة، وخاصة في المناطق الشيعية، فهم يفضّلون إلى حد كبير عراقاً يتمتع بالسيادة والسلم والتعددية ومندمجاً اندماجاً تاماً في المجتمع الدولي، ومن شأن الوجود الدبلوماسي والعسكري الأمريكي المستمر أن يساعد في تعزيز تلك الآمال.
وعلى هذا النحو، من المنطقي أن تتوقع واشنطن من الحكومة العراقية طرح شروط كفيلة بجعل هذا الوجود مفيداً لكلا الطرفين.
هناك صلة مباشرة بين اغتيال سليماني والأولوية الراسخة في سياسته المتمثلة بإرغام الولايات المتحدة على الخروج من العراق، وإذا انسحبت واشنطن الآن، فسيكون سليماني قد حقق باغتياله ما حاول دون جدوى تحقيقه في حياته، وسيكون هذا الأمر أكبر بكثير من مجرد فشل رمزي ومعنوي، بل سيكون هزيمة سياسية كبيرة لواشنطن، وانتصاراً لإيران، والعراق ينتظره مصير خطير جدًا، أما إذا حافظ القادة الأمريكيون على ثباتهم في العراق، فسيؤكدون على فشل مخططات سليماني، مما يؤدي إلى تآكل مكانة إيران الدولية، وتعزيز مكانة واشنطن، والحفاظ على استقرار العراق في الوقت نفسه.

وحدة الدراسات العراقية

 مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية