الباحثة شذا خليل*
يواجه العراق تحدياً معقداً وخطيراً في إدارة المالية العامة. فقد تجاوز إجمالي ديونه، الداخلية والخارجية، حاجز 96 تريليون دينار عراقي. وبينما يقلّل البعض من خطورة هذا الرقم بحجة أن الجزء الأكبر من الدين محلي وبالعملة الوطنية، فإن هيكل هذه الديون وأغراضها الحقيقية يكشفان عن مواطن ضعف اقتصادي عميقة لا يمكن تجاهلها.
تفصيل الدين: داخلي مقابل خارجي
وفقًا لأحدث التقديرات:
الدين الخارجي يبلغ حوالي 19.5 تريليون دينار (نحو 15 مليار دولار). ويشمل ذلك قروضاً من مؤسسات دولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحكومات مثل ألمانيا واليابان والمملكة المتحدة. وغالباً ما تكون هذه القروض منخفضة الفائدة وطويلة الأجل، وقد استُخدمت غالباً في تمويل مشاريع استثمارية وبنى تحتية.
أما الدين الداخلي فهو الأكبر، إذ يتجاوز 77 تريليون دينار، أي أكثر من 80% من إجمالي الدين العراقي، ويشمل:
52 تريليون دينار مستحقة للبنك المركزي العراقي، وغالبيتها جاءت من الإصدار النقدي المباشر (طباعة أموال جديدة).
25 تريليون دينار مستحقة للبنوك التجارية وحملة السندات الوطنية.
ورغم أن هذا الدين محلي، فإنه ليس آمناً كما يبدو.
كيف وصل العراق إلى هذه المرحلة؟
على عكس الدين الخارجي الذي يُستخدم عادةً في تمويل المشاريع، تم اقتراض معظم الدين الداخلي لتمويل العجز في الموازنة العامة، خاصة خلال فترات الأزمات مثل الحرب ضد داعش (2014–2016) وجائحة كورونا (2020).
لتغطية النفقات، اقترضت الحكومة من البنوك الحكومية والتجارية، مما أدى إلى سحب السيولة من السوق. الأموال التي كان يجب أن تُضخ في القطاع الخاص والمشاريع الصناعية والشركات وفرص العمل، تم تحويلها بالكامل إلى الرواتب والإنفاق التشغيلي.
الأخطر من ذلك، أن العديد من هذه القروض لم تُموَّل من مدخرات حقيقية، بل عبر طباعة دينار جديد من قبل البنك المركزي فيما يسمى بـ تمويل العجز. هذا الأمر أدى إلى ارتفاع التضخم، وانخفاض قيمة الدينار، وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين.
لماذا الدين الداخلي ليس آمناً؟
هناك من يقول: “لا خطر لأن الدين محلي وبالدينار”. لكن هذا الكلام يغفل عن المخاطر الحقيقية:
فقدان الثقة في النظام المصرفي قد يؤدي إلى أزمة سحب ودائع.
إذا عجزت الدولة عن سداد ديونها للبنوك، سيتعطل القطاع المالي بأكمله.
استمرار طباعة الأموال يعني زيادة التضخم وضعف العملة، وهو ما يدفع ثمنه المواطن أولاً.
اتجاه خطير: اقتراض بلا نمو
معظم الدول تلجأ إلى الاقتراض لبناء مصانع ومشاريع وبنية تحتية وتنمية التعليم. أما العراق، فيقترض لدفع رواتب الوزارات. هذا ما يسمى بـ دين غير إنتاجي، لا يولّد دخلاً ولا يحفّز النمو.
خلال سنة واحدة فقط، ارتفع الدين الداخلي بـ 13 تريليون دينار—وهو نفس الارتفاع الذي حصل خلال الأربع سنوات السابقة مجتمعة. ومع ذلك، لم تُسجّل أي نتائج واضحة:
لا انخفاض في الاستيراد،
لا نمو في القطاع الخاص،
ولا فرص عمل جديدة.
ديون غير مُعلنة وموروثة
هناك نوعان من الديون لم يُحتسبا ضمن الأرقام الرسمية:
ديون حرب الخليج: قروض حصل عليها العراق لتمويل حربه ضد إيران في الثمانينات، وتُقدّر بـ 45 مليار دولار، أغلبها لدول الخليج.
اتفاقية العراق – الصين: تحتوي على قروض غير واضحة التفاصيل، من حيث الفوائد والضمانات، ما يضيف عنصراً مجهولاً للديون العراقية.
ما الحل؟ خارطة طريق للإصلاح
لمعالجة أزمة الدين، يحتاج العراق إلى اتخاذ إجراءات جريئة ومدروسة:
إعادة هيكلة الإنفاق العام
تقليل الاعتماد على الرواتب الحكومية وتوجيه الأموال إلى الصحة، التعليم، والبنية التحتية.
إصلاح القطاع المصرفي
تشجيع البنوك على تمويل مشاريع القطاع الخاص بدلاً من تمويل الحكومة فقط.
وقف طباعة الأموال
إيقاف تمويل العجز عبر البنك المركزي، والاعتماد على مصادر تمويل حقيقية وإصلاح النظام الضريبي.
تنويع مصادر الدخل
الاستثمار في الزراعة، الصناعة، السياحة، والتكنولوجيا لتقليل الاعتماد على النفط.
الشفافية والمساءلة العامة
نشر معلومات دقيقة عن القروض، وأين تُنفق، وكيف سيتم تسديدها.
مراجعة وإعادة هيكلة الديون
تقييم جميع الديون، خصوصًا تلك المرتبطة باتفاقيات غير شفافة، مثل الاتفاقية مع الصين.
الخلاصة: الساعة تدق
الدين الداخلي العراقي ليس مؤشراً على الاستقرار، بل ناقوس خطر. إنه يعكس خللاً عميقاً في إدارة الموارد العامة، وعقلية تعتمد على حلول مؤقتة دون إصلاح حقيقي.
ما لم يُعَد بناء النظام المالي والاقتصادي، ويُغيَّر نمط الاقتراض والإنفاق، فإن العراق مهدد بـ انفجار مالي قادم قد لا يُمكن السيطرة عليه.
الوقت لا يزال في صالحنا—لكن التأخير قد يكون كارثيا
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية