الوضع الإيراني الأمريكي لن يهدأ في المدى المنظور، وهو مرشح للاستمرار في وتيرة هي بين الصعود والهبوط. إن النزاعات القائمة الآن حول العقوبات النفطية وغير النفطية المفروضة على إيران مرشحة للازدياد، وعملية اغتيال قاسم سليماني تركت وراءها سلسلة من الذيول التي لن تتوقف تفاعلاتها.
يبدو للكثير من المراقبين الأمريكيين أن الرئيس ترامب تصرف بردة فعل، وأن قراره كان متسرعا، بل يبدو أنه أحاط نفسه بعدد من المستشارين ممن يؤمنون بالأسلوب الإسرائيلي في الاغتيال والتصفية، وهذا ما ورثه تماما من نصائح جون بولتون (المستشار السابق للأمن القومي) والتقارير التي تركها والتي نظرت لعمليات الاغتيال الانتقائي بحق قيادات إيرانية.
لقد خسر الرئيس الأمريكي في السنوات القليلة الماضية الكثير من الجنرالات والقادة العسكريين الأمريكيين ممن جمعوا بين الخبرة والحكمة مثل وزير الدفاع ماتيس ومستشار الأمن القومي وماكماستار ووزير الخارجية السابق تيلرسون.
إن ردة فعل ترامب على الصراع في الشرق الأوسط تذكر بردة فعل الرئيس بوش الابن على أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، فهناك بالتحديد وقعت أمريكا في أسوأ خطأ تاريخي، بل سيسجل التاريخ أن تراجع الدور الأمريكي العالمي يعود لأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. فبفضل انجراف الرئيس بوش الابن نحو شن أكثر من حرب بنفس الوقت واحدة في أفغانستان وأخرى في العراق تورطت الولايات المتحدة في اسوأ حروب الاستنزاف منذ حرب فيتنام. لكن الشيء الذي لم تنتبه اليه الولايات المتحدة أن تلك الحروب وكل ما جاء فيها من استنزاف مالي وبشري وأخطاء ساهم في تشتيت انتباه الولايات المتحدة عن صعود الصين الهائل. الصين هي المستفيد الأول من الاهتزاز الأمريكي، وهي نفسها المستفيد من التورط الأمريكي الجديد في دائرة صراع مع إيران. ملخص القول أن الدولة الكبرى الأمريكية في هبوط وتراجع، وما سياسات ترامب الراهنة إلا تأكيد على أن رحلة الهبوط الأمريكي تجاوزت منتصف الطريق.
ولم تكن الولايات المتحدة منقسمة على نفسها في تاريخها منذ الحرب الأهلية في أواسط القرن التاسع عشر كما هي اليوم. كل هذا يقع بينما الصين تزداد ثباتا، وبينما روسيا تزداد قوة في الشرق الأوسط. الاستراتيجية الأمريكية مهزوزة للغاية، فالرئيس ترامب أعلن اكثر من مرة أنه يسعى للانسحاب من الشرق الأوسط، وأعلن أن دفاعه عن الإقليم، خاصة أنه لا يحتاج للنفط، يتطلب أن تدفع الدول العربية ثمن هذا الدفاع.
الوضع الإيراني الأمريكي لن يهدأ في المدى المنظور، وهو مرشح للاستمرار في وتيرة هي بين الصعود والهبوط. إن النزاعات القائمة الآن حول العقوبات النفطية وغير النفطية المفروضة على إيران مرشحة للازدياد
من جهة أخرى إن الاعتقاد بأن النظام الإيراني سيسقط كما سقط النظام السوفياتي هي فرضية أمريكية لن تقع في ظل عقوبات، بل لو كانت العقوبات تسقط نظاما لفرضت الولايات المتحدة إرادتها على كوبا وكوريا الشمالية ودول أخرى. العقوبات، كما يؤكد لنا التاريخ، تدفع ملايين الإيرانيين نحو مزيد من الفقر، كم أنها ترفع من نسب البطالة وتجعل الخدمات الطبية أكثر صعوبة. العقوبات، كما تؤكد كل التجارب السابقة، تضر الشعوب ولا تؤثر على النخب والقادة. إن غضب الإيرانيين الناتج عن سوء إدارة النظام إيراني لأوضاع إيران أو غضبهم تجاه الفساد المحلي لن يتحول لتأييد للولايات المتحدة ولسياسات ترامب المتوترة. بل إن الحشد الذي خرج في وداع قاسم سليماني تأكيد على طبيعة قاعدة النظام.
الجغرافيا تصب لمصلحة إيران، فهي قريبة من دول وشعوب المنطقة بينما الولايات المتحدة بعيدة، إيران منهكة لكنها تتوحد من خلال الضغط عليها ومن خلال استفزاز مشاعر الإيرانيين وحضارتهم. عبر التاريخ استطاعت أمريكا أن تضع قيودا قاسية على إيران، لكن إيران نجحت من خلال الصبر واستيعاب الضربات في امتصاص الكثير من التناقضات.
إن استراتيجية إيران في ظل هذه الأوضاع بإمكانها أن تركز على التخصيب النووي، ثم العمل على الانسحاب أكثر من كل الالتزامات تجاه الاتفاق النووي، وبإمكان إيران الضغط لخروج القواعد الأمريكية من العراق وأفغانستان، وبإمكان إيران أن تستخدم هذا الشعار بجدية لتهديد سيطرة الولايات المتحدة على أحد أهم وأغنى مناطق الطاقة في العالم. والواضح أن إيران في سعيها ستتحالف مع روسيا ومع الصين. هذه الضغوط تهدف لتغيير الموقف الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني والصناعة العسكرية الإيرانية وتهدف بنفس الوقت لرفع العقوبات. وقد تجد إيران في لحظة تاريخية قادمة (يصعب تحديد توقيتها) أن أفضل خيار لها أن تتحول لدولة نووية. هذا يبقى احتمالا في قادم السنوات.
إن اختراق إيران للمنطقة العربية حقق نجاحات لم تستطع الدول العربية تأمينها، فقد أمسكت إيران في جانب متعلق بقضية فلسطين، وتميزت بالقدرة على العمل مع قواعد شعبية عربية وإسلامية بما فيها دول إسلامية كتركيا، ونجحت إيران في استثمار الإطار المذهبي والطائفي في ظل تصدير أيديولوجية للعمل السياسي والشعبي والقتالي. لهذا لن يوقف زحف إيران الاقليمي تدخل خارجي أمريكي او إسرائيلي جديد. بل إن السعي الإيراني لاختراق العالم العربي ينافس الأمريكي و الإسرائيلي بقوة، وهو قادر على إدخال التركي والروسي في تقاطعاته. لقد أصبح العالم العربي ملعب الجميع. إن الوحيد القادر على إيقاف النزيف العربي الذي يقف خارج المعادلات هو مشروع عربي ديمقراطي حقوقي مستقل عن التبعية للولايات المتحدة والصهيونية. هذا المشروع الذي نرى بدايات له في حراك لبنان والعراق والجزائر والسودان ويقع أصله في ربيع 2011 هو الوحيد القادر على خلق توازن حقيقي بين العرب والفرس وبين العرب والأتراك في هذا الإقليم الممزق.
شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي