يكشف لنا الوضع الإقليمي العربي الراهن بأن ما كان يجمع الدول العربية قبل عشرين عاما أو حتى قبل عشرة أعوام لم يعد متوفرا الآن. كما أن أي دراسة للوضع العربي ستكشف مدى سيطرة الخارج على الداخل العربي، وأن سيطرة الخارج لم تعد مقتصرة على الدول الغربية او الولايات المتحدة بل امتدت لتشمل الدول الاقليمية كإيران وتركيا. لقد فقدت الدول العربية الكثير من هامش المناورة المستقلة التي ميزتها في مراحل سابقة، خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال ومواجهة القوى الاستعمارية في ظل المد القومي العربي.
وإن نظرنا لحالة المحاور الراهنة سنجد أن هناك عددا من المحاور. فهناك محور سعودي إماراتي بدأ مع غيره من الدول حرب اليمن في العام 2015 وله دور خاص وشبه عسكري في ليبيا، كما قاد حصار قطر منذ 2017 بينما يحاول إعادة صياغة الوضع العربي الذي نشأ منذ ربيع 2011. هذا المحور الذي يتضمن القاهرة و البحرين يعيش أيضا حالة صدام مباشر مع إيران، ولديه علاقات مميزة مع إدارة ترامب إضافة لتوافق وتقاطعات لم يفصح عن طبيعتها بالكامل مع إسرائيل. لقد اكتشف هذا المحور أهمية العمل في الساحة الأمريكية ولهذا يمكن القول إن بعض عناصر هذا المحور وعلى الأخص الإمارات حققت مكاسب عدة مع البيت الابيض، لكنها خسرت الكثير من المكاسب بعد التحقيقات والتساؤلات المرتبطة بأوضاع إدارة ترامب وسوء استخدام صلاحياتها. إن اغتيال خاشقجي من جهة أخرى في 2018 ترك أثره أيضا على العلاقة السعودية مع الكونغرس الأمريكي ووسائل الاعلام، لكنه لم يغير طبيعة العلاقة مع البيت الأبيض.
أما المحور الإيراني فهو مختلف في الوسيلة وطريقة العمل. لقد ركزت إيران على استغلال أخطاء الآخرين، ومن هنا قدرتها على التمدد في العراق بعد الغزو الأمريكي 2003، ثم تمددها في لبنان بعد الغزو الإسرائيلي في لبنان 1982، اما تمددها في سوريا واليمن فكان هو الآخر جزءا من استراتيجية اختراق مرتبطة بسوء إدارة الأطراف الأخرى والخارجية لتلك الأزمات والثورات بعد أن تعسكرت. المحور الإيراني يستند على قوة الإيديولوجية ذات المنحى الديني، وقد استطاع بناء جذور مع قوى تعمل في الشارع، وهو لم يكتف بالعمل وسط الإسلام السياسي الشيعي، لكنه سعي باتجاه الإسلام السياسي السني ممثلا بحركة حماس في مواجهة إسرائيل. و لم تجد حماس طرفا عربيا يدعمها مؤخرا سوى إيران المتحررة من القيود الدولية والأمريكية.
لكن علاقة إيران بحماس تحمل منطلقات أخرى، فإيران تصطدم مع جزء من النظام الدولي المسيطر عليه أمريكيا، وهي في صدام مع إسرائيل خاصة بسبب البرنامج النووي وبسبب تصنيعها لصواريخ تغير بعض موازين الشرق الأوسط. لهذا تساهم إيران في دعم حماس بالرغم من خلافات عدة بين حركة حماس وبين إيران حول سوريا ولبنان والعراق. إن المحور الإيراني في صدام مع النفوذ الأمريكي والدور الأمريكي والقواعد الأمريكية في الإقليم العربي والخليجي، هذه جوانب ستترك آثارها المتوسطة في نزاعات الإقليم، لكن الصدام الإيراني مع الولايات المتحدة يحضرها للعب دور أكبر وتحقيق مكاسب عندما تنكفئ الولايات المتحدة علي نفسها. فالمحور الإيراني يتميز بأنه أكثر استقلالية في منظومته وطرق عمله وعمقه الشعبي، وهذا يصنع القارق بينه وبين منظومات مضطرة للاعتماد على الولايات المتحدة لتأمين الحد الأدنى من الأمن والحماية.
إن اعتماد العالم على النفط باتجاه تنازلي، وهذ يضع المنطقة في مسار تحديات جديدة مرتبطة باقتراب عصر ما بعد النفط. لكن بنفس الوقت من الصعب التنبؤ بانتهاء صراع المحاور وذلك لطبيعة الأشواط التي قطعتها تلك المحاور التي دفعت بخلافاتها نحو التأزيم الشامل
وتسعى عدد من الدول العربية للوقوف على مسافه من سياسة المحاور الإقليمية. إن عددا من الدول العربية ليست مع المحور الإيراني لكنها ليست في صراع مباشر معه، وهذا واضح في حالة الكويت وقطر عمان ومحاولاتهم عدم الانجرار لنزاع المحاور، ففي قطر مثلا اتفاق ضد الإرهاب وقاعدة أمريكية وبنفس الوقت قاعدة تركية. إن دوامة النزاع في الإقليم قد تفرض حالة من الفرز في أي وقت. لا يوجد ما يؤكد مقدرة الدول البقاء بعيدا عن حالة الاستقطاب.
لهذا تبرز تركيا كمحور ثالث بما لديها من قدرات عسكرية واقتصادية إضافة للقدرة على إدارة بعض الملفات. ففي سوريا تقدمت في العام 2019 في ظل تخلي الولايات المتحدة عن الأكراد. وعندما تفجرت أزمة حصار قطر قامت تركيا بتغطية الجانب الأمني و العسكري بما في ذلك إنشاء قاعدة عسكرية في الدوحة. المحور التركي نجح أيضا عام 2019 في نجدة حكومة الوفاق في ليبيا.
المحور التركي تداخل مع قطر بسبب الحصار وظروفه، لكنه بنفس الوقت يتداخل ويتقاطع الموقف التركي مع تيارات شعبية إسلامية كالإخوان المسلمين وقوى حقوقيه عربية أخرى. وبما أن تركيا دولة صاعدة ومؤثرة، فمحورها لازال في طور النمو، وهذا واضح في سوريا و في طبيعة التنسيق التركي الروسي والتركي الإيراني.
إن الصراع في الإقليم يزداد تداخلا، إذ لن يستطيع أي محور من المحاور، مهما كان قويا، أن يديم سيطرته وتقدمه على كل الجبهات وذلك في ظل إدارة أمريكية تؤمن ان الفوضى تخلق فرص للولايات المتحدة، وتأتي اليها بمزيد من التدفق المالي. إن إدامة السيطرة بحاجة للكثير من الموارد في منطقتنا. وما قيام الرئيس ترامب يوم 27-1-2020 بتقديم خطته الأحادية والمنحازة لحل الصراع العربي الإسرائيلي بوجود رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلا تأكيد على مدى ضعف هذه الإدارة وتراجع مكانتها في عموم الإقليم.
إن اللاعبين الأساسيين في دول الخليج، بتنوع توجهاتهم بما فيها السعودية والإمارات، لديهم حاجة للتنسيق في أمور كثيره مع إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة وذلك بهدف تهدئة الوضع الإقليمي. بنفس الوقت لم تعد المحاور الجديدة تشمل جامعة دول عربية ومجلس التعاون الخليجي. إن اعتماد العالم على النفط باتجاه تنازلي، وهذ يضع المنطقة في مسار تحديات جديدة مرتبطة باقتراب عصر ما بعد النفط. لكن بنفس الوقت من الصعب التنبؤ بانتهاء صراع المحاور وذلك لطبيعة الأشواط التي قطعتها تلك المحاور التي دفعت بخلافاتها نحو التأزيم الشامل والمواجهة. سيبقى الإقليم في حالة صراع لكن ذلك لن يخلو من محاولات لوضع سقف لتوتراته كما حصل بعد اغتيال قاسم سليماني.
شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي