يطرح تصعيد الحملة العسكرية التي يشنها النظامان، الروسي والسوري، على محافظة إدلب السورية، أسئلةً عما إذا كان يدخل من باب زيادة الضغوط الروسية على الساسة الأتراك في الملف السوري، وعن أغراض هذا التصعيد، وتزامنه مع التجاذبات والمشادّات في الملف الليبي، ويطاول التفاهمات الروسية التركية بشأن ملفات المنطقة وقضاياها، ومجمل العلاقات الروسية التركية، وعمّا إذا كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يبتز نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، أم يتفاهم معه على قاعدة تقاطع المصالح والأجندات وتشاركهما؟
بداية، ليس مستبعداً أن يمارس ساسة الكرملين أساليب الابتزاز في سياساتهم، وحيال نظرائهم الأتراك تحديدا، خصوصا بعد توقيع الحكومة التركية مذكرتي التفاهم مع حكومة “الوفاق الوطني” الليبية، المتعلقتين بترسيم الحدود الملاحية في البحر المتوسط، والتعاون الأمني بينهما، وقُوبل ذلك بردّات فعل رافضة من دول عديدة تخوض في الملف الليبي، ومن بينها روسيا، التي زادت، أخيرا، وتيرة تدخلها العسكري المباشر في ليبيا إلى جانب اللواء خليفة حفتر. وبالتالي، يأتي تصعيد الروس ونظام الأسد هجمات قواتهم على مناطق إدلب السورية نوعا من الضغط الروسي على تركيا من هذه البوابة، بالنظر إلى أنها طرف ضامن وفق مساري أستانة وسوتشي، اللذين اجترحهما الروس، وقواتها موجودة في تلك المنطقة، عبر اثنتي عشرة نقطة عسكرية، وفق تفاهمات معهم.
ولكن مسار العلاقات الروسية التركية، خلال السنوات الماضية، يكشف أن تغيرات عديدة طاولت هذا المسار، خصوصا في الملف السوري، حيث طالب بوتين أردوغان بالاعتذار رسمياً عن
“ليس مستبعداً أن يمارس ساسة الكرملين أساليب الابتزاز في سياساتهم، وحيال نظرائهم الأتراك تحديداً”إسقاط تركيا طائرة سوخوي 24 روسية في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، ولجأ على إثرها إلى قطع جميع الاتصالات العسكرية مع تركيا، مع فرض عقوبات اقتصادية عليها.
في المقابل، أصاب العلاقات الأميركية التركية تصدع وتردّ، نتيجة تراكمات عديدة، على خلفية تعامل الولايات المتحدة مع القضية السورية، وحصر واشنطن أولوياتها في دعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية (PYD)، الذي تعتبره تركيا الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي (PKK)، من أجل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وغضّ ساسة الولايات المتحدة النظر عن ممارسات النظام السوري الذي كانت أنقرة تعتبره أصل المشكلة. والأهم هو تخلي الغرب والولايات المتحدة عن تركيا، حين توتّرت علاقاتها مع روسيا، بعد إسقاطها طائرة السوخوي. وزاد الموقف الأميركي، الملتبس، من المحاولة الانقلابية العسكرية الفاشلة على الرئيس أردوغان في صيف 2016، من توتر العلاقات بين البلدين، إضافة إلى رفض الولايات المتحدة تسليم المطلوب لأنقرة، فتح الله غولن، الذي يقيم في بنسلفانيا الأميركية.
واستغل بوتين التردّي الذي اعترى العلاقات التركية الأميركية، وخذلان الغرب وحلف شمال الأطلسي (الناتو) لها، لجذبها نحو روسيا، والانتقال بالعلاقات الروسية التركية من مرحلة التوتر والعداء إلى مرحلة التطبيع والتفاهم، مع إصرار بوتين على اعتذار الرئيس أردوغان عن الحادثة، والذي لم يجد مناصاً منه، ثم تُوجت المصالحة التركية الروسية، بعد زيارة أردوغان موسكو في التاسع من أغسطس/ آب 2016، وجسّد ذلك انتقال الساسة الأتراك الذين كانوا يدعمون فصائل المعارضة السورية المسلحة في مواجهة النظام السوري وحليفيه، نظام بوتين ونظام الملالي الإيراني، من موقع الداعم لها في مواجهة نظام الأسد إلى موقع الضامن لها في تنفيذ تفاهمات مسار أستانة ومخرجاته، وهو المسار الذي هندسه الساسة الروس، بعد سقوط أحياء حلب الشرقية في قبضة القوات الروسية ومليشيات نظامي الأسد والملالي الإيراني.
ودشّن مسار أستانة تفاهماتٍ واتفاقاتٍ ثلاثية في الملف السوري، ما بين الساسة الروس والأتراك والإيرانيين، ولم يكن المستفيد منها الشعب السوري، ولا المعارضة السورية، بل أسفرت عن
“استغل بوتين التردّي الذي اعترى العلاقات التركية الأميركية، وخذلان الغرب وحلف الناتو لأنقرة” فقدان المعارضة المسلحة المنطقة بعد الأخرى، من المناطق التي قسّمت وفق مخطط روسي إلى مناطق “خفض التصعيد”، وموافقة تركية وإيرانية، ليتّضح أن الغاية الروسية هي السيطرة على هذه المناطق، وتهجير المدنيين والمقاتلين قسرياً إلى إدلب، والتي تشهد في أيامنا هذه حرب إبادة، يشنّها الروس إلى جانب مليشيات نظامي الأسد وطهران، بغرض إفراغها من ساكنيها، وإعادة سيطرة نظام الأسد عليها.
لكن العلاقات التركية الروسية لا تقتصر على الملف السوري، ولا تنحصر في السياسة، بل تمتد إلى الجانبين، الاقتصادي والعسكري، اللذين شهدا نموّاً وتوسّعاً في الآونة الأخيرة، وتجسّدهما الصفقات التجارية والعسكرية التي توجتها صفقة منظومة صواريخ إس 400 المثيرة للجدل، إضافة إلى تدشين مشاريع طاقة مهمة، حيث دشّن الرئيسان، أردوغان وبوتين، في السابع من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، الجزء البحري من مشروع خط أنابيب الغاز “السيل التركي”، ويتضمن بناء خطين رئيسيين لأنابيب نقل الغاز، تصل طاقة كل منهما إلى 15.75 مليار متر مكعب، خصص الأول لتوريد الغاز مباشرة من روسيا إلى تركيا، أما الآخر فيقوم بتوريد الغاز إلى الدول الأوروبية عبر الأراضي التركية. وتعتبر تركيا من أكبر عملاء الغاز الروسي، حيث تؤمن روسيا 55% من احتياجات تركيا من الغاز الطبيعي. ويسعى الأتراك إلى أن تكون بلادهم مركزاً لنقل الغاز من آسيا الوسطى وروسيا باتجاه القارة الأوروبية. كما شهدت العلاقات التجارية الروسية التركية زيادة في معدل التبادل التجاري، من خلال ارتفاعه خلال النصف الثاني من العام 2019 بنسبة 34%، ليتجاوز 15 مليار دولار.
والواقع أن تركيا تحاول استغلال موقعها الجيوسياسي، من خلال زيادة وتيرة دورها وتأثيرها في قضايا المنطقة، بغية الحصول على أكبر قدرٍ ممكن من المكاسب من الطرفين، الغربي والروسي، ويجد ذلك انعاكاساتٍ له في العمليات العسكرية التي قامت بها تركيا في الشمال السوري، من خلال عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”. وامتدّ هذا الدور إلى زيادة وتيرة التدخل المباشر في ليبيا، إلى جانب حكومة الوفاق في العاصمة الليبية طرابلس.
ولدى الساسة الأتراك مراهنات كبيرة على دور بلادهم وتأثيرها في قضايا المنطقة، ولكن المخاطر كبيرة، ليس فقط لأن المصالح الاستراتيجية والتكتيكية مختلفة مع روسيا، ومع باقي اللاعبين الغربيين، ولكن أيضاً لأن هناك تماسّا عسكريا مباشرا بين القوى المتدخلة في شؤون بلدان المنطقة العربية قد يطرح تحدّيات سلبية على تركيا. إضافة إلى أن علاقات تركيا مع روسيا يعتريها اختلافات في التوجهات، على الرغم من تقاطع المصالح وتشابكها، حيث تقف روسيا إلى جانب نظام الأسد على كل المستويات، السياسية والعسكرية والاقتصادية، بينما ما يزال نظام الأسد يمثل عدواً بالنسبة إلى تركيا، على الرغم من محاولات بوتين استغلال علاقاته مع أردوغان من أجل التطبيع بينه وبين نظام الأسد.
ويلجأ الساسة الروس إلى ابتزاز الأتراك، من خلال الغمز من مقولة استمرار التزامهم بالحفاظ
“تحاول تركيا استغلال موقعها الجيوسياسي، بزيادة وتيرة دورها وتأثيرها في قضايا المنطقة” على وحدة وسيادة سورية (التي يحتلونها)، أرضاً وشعباً، وينظرون إلى وجود أي قوات أجنبية، غير قواتهم، على أراضيها، غير شرعي. وفي كل مناسبة تتعثر فيها تفاهماتهم مع الأتراك، يغمزون من خانة ضرورة انسحاب كل القوات الأجنبية من سورية. ويرد عليهم الساسة الأتراك بتأكيدهم الاعتراف بوحدة سورية، وأن وجود قواتهم مؤقت، وتمليه عليهم مصالح الأمن القومي التركي، لمواجهة مقاتلي حزب العمال الكردستاني ومليشياته في تركيا، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، ووحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، التي يصنفونها جميعاً منظمات إرهابية.
في المقابل، لا تعتبر روسيا هذه التنظيمات الكردية إرهابية، بل تنسق وتحافظ على علاقات قوية معها، وحاولت مراراً إشراكها في مفاوضات جنيف واجتماعات مسار أستانة وسوتشي، كما حاولت التوسّط بينها وبين الحكومة التركية، لكنها لم تنجح في إحداث تغييرٍ في موقف أنقرة تجاه هذه المنظمات التي تعتبرها مصدر الخطر الأساسي على أمنها القومي. يضاف إلى ذلك أن ساسة الكرملين غير مرتاحين لوصول الرئيس أردوغان إلى تفاهماتٍ مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بشأن المنطقة الآمنة في شرقي الفرات، على الرغم من أن العملية العسكرية التركية فيها تمتّ بضوء أخضر مزدوج، روسي وأميركي.
وعلى الرغم من جميع التباينات الإستراتيجية والخلافات بين الساسة الأتراك والروس، يواظب ساسة الكرملين على إشراك تركيا في الملف السوري، مستغلين نفوذهم لدى الفصائل السورية المعارضة، ويحاولون استغلال ذلك النفوذ لدى حكومة الوفاق في ليبيا من أجل إشراكهم في حلٍّ يقوم على لعبة تقاسم النفوذ والمصالح في ليبيا وسورية وسواهما، مستفيدين من التناقض حيال المواقف الأوروبية، وعدم اكتراث الولايات المتحدة ولا مبالاتها بما يجري في كلا البلدين.
ويشير تصعيد الروس والنظام الأسدي هجماتهما على مناطق محافظة إدلب، وربطها بالوضع في ليبيا، وفق معادلة إدلب مقابل طرابلس، إلى حجم ومدى استغلال بوتين علاقاته مع أردوغان،
“التفاهمات التركية الروسية كانت على حساب السوريين، وقدّمت لنظام الأسد ما لم يكن يتوقعه”على الرغم من التفاهمات التي عقدها معه حول المنطقة في اتفاق سوتشي، الذي وقع في 17 سبتمبر/ أيلول 2018، الأمر الذي يفسّر عدم توصل العسكريين الروس والأتراك إلى نتيجةٍ بشأن تهدئةٍ في إدلب، لأن الخطط الروسية تتمحور على إعادة تشكيل خريطة جديدة للمنطقة، بما يعني توسيع نفوذ الروس في المنطقة على حساب النفوذ التركي فيها، وخسارة فصائل المعارضة مزيدا من مناطق سيطرتها، تمهيداً لقضم المنطقة برمتها، بعد أن غيروا ميزان القوى لصالح نظام الأسد الإجرامي. ويتنافى ذلك كله مع طموحات أنقرة في المنطقة التي تعتبرها جزءاً من أمنها القومي، وفقدانها يعني تهديداً مباشراً لتركيا وأمنها واستقرارها.
ويلجأ الساسة الروس إلى المخاتلة من خلال تكرار معزوفة تمسّكهم باتفاق سوتشي وتفاهمات أستانة التي أبرموها مع نظرائهم الأتراك، والمفارقة أن يردّد الساسة الأتراك من طرفهم المعزوفة نفسها، الأمر الذي يشي بأنهم يريدون تأمين نفوذهم عبر تلك التفاهمات، حيث تمكّنوا وفقها من تأمين نفوذهم في مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، و”نبع السلام”، وما زالوا يراهنون على حدوث تغير سياسي في الملف السوري، يخرجهم من ارتدادات تعاملهم مع هذا الملف، ويسقط مشروع قيام كيان كردي في الشمال السوري.
ويكشف واقع الحال أن التفاهمات التركية الروسية كانت على حساب السوريين، وقدّمت لنظام الأسد ما لم يكن يتوقعه، إذ أعاد سيطرته، بعد العملية العسكرية التركية في شرقي الفرات، على مواقع ومناطق عديدة في الجزيرة السورية، من دون أن يطلق طلقة واحدة، بل ولم يعترض الأتراك على وصول دوريات النظام العسكرية إلى حدوده في مناطق عين العرب (كوباني) وسواها، فيما يواصل الساسة الروس محاولاتهم تطبيق علاقة الأتراك من نظام الأسد، عبر عقد لقاءاتٍ بين وفود أمنية، ومحاولاتهم إحياء اتفاقية أضنة (1998)، والتي تصطدم بعدم قبول الجانب التركي لها، لكن ذلك لن يحجب حقيقة أن ما يجري هو خليط بين المصالح وتقاسم النفوذ والابتزاز وسوى ذلك.
عمر كوش
العربي الجديد