اعتبر تقييم الوضع السنوي الصادر عن جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، ولأول مرة، أن تركيا باتت تهدد إسرائيل، وتشكل خطراً عليها. وعرض الجهاز عدة أسباب لذلك، تتعلق بالسياسة التركية في سورية وشرق المتوسط، والمنطقة بشكل عام، مع تجاهل لافت متعمد وغير بريء للحضور التركي في فلسطين. والإشارة إلى أن السياسة التركية العدوانية الحالية، حسب التعبير الإسرائيلي، لن تتجاوز الرئيس رجب طيب أردوغان، بمعنى أنها فعل فردي، وليست فعلا مؤسساتيا جماعيا.
“أمان” هو جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الأكثر أهمية، على عكس الخطأ العربي الشائع الذي يعتقد أن “الموساد” هو الجهاز الأهم في الدولة العبرية، بينما يوصف “أمان” بأنه المقدّر القومي، أي من يضع التقديرات والمحددات للسياسة الإسرائيلية. لم يوضح التقييم أي تهديد محدّد من تركيا تجاه إسرائيل، غير أنه تحدّث عن ثلاث نقاط أساسية، أدت إلى التوصية، باعتبار تركيا واحدة من المخاطر التي يجب مراقبتها خلال العام 2020، وهي العمليات العسكرية التركية في سورية، والحضور التركي في شرق المتوسط، بما في ذلك التفاهمات البحرية الموقعة أخيرا مع حكومة الوفاق الليبية في طرابلس، إضافة إلى العلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين التي تسبب ما وصفه التقييم قلقا إسرائيليا.
على الرغم من أن العمليات العسكرية التركية في سورية تأتي في سياق الدفاع عن النفس،
“لا إمكانية لاستعادة التحالف أو العلاقات الدافئة بين تركيا وإسرائيل، وهي الحقيقة في السياسات الماثلة”ومحاربة الإرهاب وفق مواثيق الأمم المتحدة (البند 51 من الميثاق الأممي) إلا أنها تزعج تل أبيب وتقلقها، كونها تؤكد الحضور التركي وقوة أنقرة لاعبا إقليميا مركزيا مهما لا يمكن تجاهله. والأهم ربما أنها أجهضت تماماً الأفكار التقسيمية لإضعاف سورية، ومنع نهوضها. ومن جهة أخرى، استنزاف تركيا، وقطع تواصلها مع محيطها الجيوبوليتيكي، العربي الإسلامي، ومنعها من القيام بواجبها ودورها في المنطقة، علماً أن تركيا تقف إلى جانب الشعب السوري والشعوب العربية، وهي قوةٌ أصيلةٌ تفكر بعقل وحدوي جامع، بينما تتصرّف إسرائيل بذهنية الغزاة التقسيمية، وقاعدتهم “فرق تسد”.
أمر مماثل يمكن قوله عن الحضور التركي شرق المتوسط، كونه يؤكّد قوة تركيا نفسها في الإقليم، دفاعاً عن مصالحها ومصالح إخوانها في قبرص الشمالية وليبيا، ويمنع إسرائيل من الهيمنة، أو نهب ثرواتها ومواجهة سياسة المحاور التي تتبعها، والأهم ربما أنه يجهض فكرة تحول إسرائيل إلى موزع إقليمي، أو أحد مصادر الطاقة في المنطقة.
هنا لا بد من استحضار موقف نظام عبد الفتاح السيسي المفرط، والمناقض لحقائق التاريخ والجغرافيا، لأن مصلحة القاهرة هي إلى جانب تركيا وليبيا. ولا يبدو غريباً أن تقلق إسرائيل من التفاهمات التركية الليبية، بينما الغريب أن تنزعج مصر، بينما يقرّ وزير خارجيتها، سامح شكري، أن بلاده لن تتضرّر منها، أو تؤثر سلباً عليها. وعلى الرغم من ذلك، تقف وتحرض ضدها في مجافاةٍ لأبسط قواعد السياسة والمصالح بين الدول.
واضح طبعاً أن نظام السيسي، كمعظم الأنظمة الاستبدادية، لم يعد يمتلك سياسة خارجية، إنما داخلية فقط، حيث يحدّد توجهاته الخارجية بناء على خصوماته الداخلية، كما الرغبة في حصد شرعية خارجية من إسرائيل وداعمتها أميركا، في ظل الافتقاد إلى الشرعية الداخلية التي لا يحوزها النظام الانقلابي.
وتندرج العلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في السياق السابق نفسه، أي الحضور التركي في المنطقة، والمساهمة في حل أزماتها ومشكلاتها بشكل عادل وديمقراطي، يعطي الشعوب الحق في حكم نفسها وتقرير مصيرها. والإخوان المسلمون بالتأكيد قوة مركزية أصيلة، لا يمكن تجاوزها، وكلفة الإقرار بوجودها أقل بكثير من كلفة إقصائها وإعلان الحرب عليها. وهنا أيضاً تفكر إسرائيل بعقلية الغزاة، ولذلك تتساوق مع الطغاة الباحثين عن شرعيتهم من الخارج، كما أنها تفهم ذهنية “الإخوان”، وتعرف أنهم يشكلون خطراً عليها، وفي الحد الأدنى لن يكونوا حلفاء لها، أو جزءا من مخططاتها، كما يفعل نظام السيسي مثلاً.
تجاهل التقييم الإسرائيلي عن عمد التأثير أو الحضور التركي في فلسطين نفسها الذي تزخر
“السياسة الإسرائيلية المتبعة في تل أبيب، تقوم علي عدم مواجهة تركيا مباشرة، والاعتماد، في المقابل، على التحريض ضدها في أميركا والغرب، وتشجيع أطراف إقليميين واستمالتهم لمواجهته”وسائل الإعلام الإسرائيلية بتقارير وتسريبات عن الانزعاج منه، ووضع خطط وتوصيات رسمية لمحاربته وتحجيمه. أعتقد أن الجهاز نأى بنفسه، كي لا يقال إن ما يتم نشره وتنفيذه يمثل توصياته، أو حتى سياسة إسرائيلية رسمية متبعة، خصوصا أن الحضور التركي في فلسطين، والقدس تحديداً، قانوني، وبما يتلاءم مع مواثيق الأمم المتحدة، وحتى العلاقات الرسمية بين الدولتين، الباردة ولكن المستمرة. وتجاهل هذا البند مرتبط برغبة الدولة العبرية في عدم الاصطدام المباشر مع تركيا، أو قطع العلاقات معها، وهذا يعيد إلى التحريض عليها والاعتماد على اليونان وقبرص الرومية، وحتى نظام السيسي، لمواجهتها.
أما خط “إيست ميد” البحري المفترض أن ينقل الغاز الإسرائيلي عبر قبرص واليونان إلى أوروبا فهو مشروع سياسي، كما قال فعلاً محلل إسرائيلي، ومن المستحيل عملياً تنفيذه، والهدف منه كما أشار تقييم “أمان”، ضمنياً، هو محاربة الحضور التركي في شرق المتوسط وتحجيمه، عبر قوى أخرى، لكن من دون حضور إسرائيلي مباشر، أو انخراط جدّي في المواجهة.
ومن هنا، تحدّث التقييم الإسرائيلي عن عدم توجه جيش الاحتلال إلى الاصطدام مع تركيا عسكرياً هو نفسه، ما قاله وزير الخارجية، يسرائيل كاتس، نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ومفاده بأن الدولة العبرية لن ترسل سفنا لمحاربة أو مواجهة السفن التركية المنتشرة فعلاً في المنطقة. وهذا يتساوق طبعاً مع معطيات “أمان”، والسياسة الإسرائيلية المتبعة في تل أبيب، القاضية بعدم مواجهة تركيا مباشرة، والاعتماد، في المقابل، على التحريض ضدها في أميركا والغرب، وتشجيع أطراف إقليميين واستمالتهم لمواجهتها.
كانت لافتةً جداً الإشارة إلى أن السياسات التركية التي عرضها التقييم الإسرائيلي مرتبطة بالرئيس أردوغان، وأنها لن تتجاوزه، وهذا استنتاج غير دقيق. لأن ثمة توافقا عاما على الحضور التركي في العالمين العربي والإسلامي وأفريقيا وحتى في أميركا اللاتينية، القائم على المصالح المشتركة، والمستند أساساً إلى القوة الناعمة قاعدةً، واعتبار التدخل العسكري بمثابة الاستثناء. وفيما يتعلق بليبيا مثلاً والتفاهمات معها، ثمّة تأييد كبير وواسع لها، ويتم تداول فيديو ساخر من زعيم المعارضة، كمال كليتشدار أوغلو، الذي انتقد غياب تركيا عن شرق المتوسط، على الرغم من حضور قوى إقليمية ودولية (عدَّدها واحدة واحدة)، ثم انتقد التدخل التركي في ليبيا والمنطقة، ما جعله مثارا للسخرية والانتقاد، حتى من وسائل إعلام محسوبة على المعارضة.
عموماً، أهم ما في تقييم “أمان” تأكيده الضمني أن لا إمكانية لاستعادة التحالف أو العلاقات الدافئة بين تركيا وإسرائيل، وهي الحقيقة القائمة في السياسات الماثلة، كما في تقديرات لمراكز بحثية إسرائيلية عديدة، كون نقطة الخلاف المركزية بين الجانبين هي القضية الفلسطينية، فطالما لم تحل، واستمرت إسرائيل في سياستها العدائية ضد الشعب الفلسطيني الأقرب والأحبّ إلى الشعب التركي، لن يكون في الوسع إعادة الدفء للعلاقات الرسمية التي ستستمر على مستوى القطاع الخاص، ولكن في حدودها وسقفها الحالي.
ماجد عزام
العربي الجديد