منذ بداية الحرب في العراق عام 2003، شكّلت أهمية سلامة الوضع السياسي وسلامة الأراضي في دولة العراق عنصرًا أساسيًا في سياسة الولايات المتحدة. وعلى ضوء اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني، والردّ الإيراني عليه، واستمرار أعمال العنف في العراق– التي تجسّدت مؤخرًا في هجوم لم تتبناه أي جهة على السفارة الأمريكية– يتعيّن على الحكومة الأمريكية الآن إعادة النظر في جدوى استمرارية السياسة الحالية المعتمدة تجاه العراق.
وأثبتت الحكومة الحالية في بغداد عدة مرات أنها ليست شريكًا موثوقًا للولايات المتحدة من خلال إهمال واجباتها الأساسية، بما في ذلك عجزها عن حماية الموظفين الأمريكيين في الخارج. وعلى سبيل المثال، أظهرت الحكومة أنها إما لا ترغب أو هي عاجزة عن حماية السفارة الأمريكية من المتظاهرين العنيفين ومن الهجمات. وطيلة أسابيع، لم تنجح بغداد في منع تعرّض الدبلوماسيين والقوات والمقاولين الخاصين الأمريكيين من القصف، علمًا بأنهم أتوا لتسهيل تدريب الجيش العراقي– ما أسفر عن مقتل مقاول أمريكي خاص وجرح العديد من المقاولين والجنود الأمريكيين الآخرين مؤخرًا.
وتؤكّد عملية التصويت المثيرة للجدل التي أجراها البرلمان العراقي مؤخرًا لإنهاء وجود القوات الأمريكية في العراق ما تم تداوله لأشهر– إن لم يكن لسنوات – بأن الحكومة العراقية في بغداد خاضعة لعناصر موالية لإيران. ويثبت هذا التصويت أيضًا قبولًا باستمرار تواجد الميليشيات خارج سيطرة الدولة– على غرار “كتائب حزب الله”– وبالتالي رغبة في تجاهل سيادة القانون.
علاوةً على ذلك، يعكس هذا التصويت الانقسامات الطائفية العميقة داخل الحكومة العراقية. فقد صوتت غالبية النواب الشيعة في البرلمان لصالح طرد القوات الأمريكية، في حين لا يزال العراقيون الآخرون يعارضون تدخل إيران. والأهم أن رجال السياسة العراقيين من السنّة والأكراد لم يحضروا جلسة التصويت البرلمانية. هذا ويعكس تضامن السياسيين الشيعة، المتجلي بتعزيز قدرات الجيش ومؤسسات الدولة، عدم استعدادهم لضمان مصلحة الدولة العراقية ككل وليس مجتمعهم فقط. كذلك، تؤكد المسيرة المليونية التي دعا إليها مقتدى الصدر الأسبوع الفائت أن صانع الملوك الأكثر ترجيحًا في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة لا يميل أو لا يهتم كثيرًا بالحفاظ على وجود عسكري أمريكي في العراق، رغم أنه يسعى أيضًا إلى الحدّ من النفوذ الإيراني على سياسة العراق.
وحتى الآن، حدّد صناع السياسة الأمريكيون ردَين محتملين على التطورات التي جرت في الآونة الأخيرة. ويقوم أحدهما على البقاء في العراق وإصلاح العلاقات. وتبرر الولايات المتحدة هذا الرد بالاستناد إلى الكم الكبير من رأس المال البشري والموارد التي استثمرتها في العراق، فضلًا عن دور العراق المستقبلي في التصدي لعودة “داعش” واحتواء إيران. غير أن إصلاح العلاقات يتطلب شريكًا عراقيًا شرعيًا. وقد يستغرق تشكيل حكومة جديدة أشهرًا، بما أن الحكومة العراقية في وضع متقلب بعد استقالة رئيس الوزراء. وكلما انتظرت الولايات المتحدة أكثر لتشكيل حكومة جديدة، ازداد خطر تعرض المسؤولين والجنود والمقاولين الخاصين الأمريكيين لهجمات على يد الميليشيات.
وعلى نحو مماثل، ستواصل إيران ووكلاؤها اللجوء إلى مستويات غير مسبوقة من العنف من أجل البقاء في السلطة؛ علمًا بأن آلاف المتظاهرين في العراق وإيران سقطوا أساسًا بين قتيل أو جريح أو مسجون خلال الأشهر العديدة الماضية. ومن المرجح أن تبقى السفارة الأمريكية وقواعدها العسكرية ومواطنوها الأفراد مستهدفين من قِبل فصائل موالية لإيران أملاً منها توحيد قاعدتها حول معاداة الولايات المتحدة ردًّا على رفض المتظاهرين الشيعة بغالبيتهم المستمرّ لكل من التأثيرَين السياسي الإيراني والحكومة العراقية الجلّيين.
أما النتيجة المحتملة الثانية فهي نهاية الوجود العسكري الأمريكي في العراق. ويمكن أن يتجلى وعد إدارة ترامب في خفض عدد القوات في الخارج وتجنّب الخوض في المزيد من الصراعات في الشرق الأوسط في حال استمرار العنف ضدّ أهداف أمريكية. غير أنه من شأن انسحاب الولايات المتحدة أن يمدّ إيران ووكلائها بالجرأة ويشكك بالعزم الأمريكي على الصعيدين الإقليمي والدولي ويسفر على الأرجح عن عودة “الدولة الإسلامية”.
إلا أن خيارًا ثالثًا أو وسطيًا لا يزال قائمًا. إذ يمكن للولايات المتحدة أن تخفض بشكل ملحوظ تواجدها في بغداد من دون الانسحاب من المنطقة من خلال توطيد علاقتها مع حكومة إقليم كردستان العراق. فمن شأن تعزيز علاقتنا العسكرية بشريك موثوق أن يعوّض عن وجود أمريكي محدود في المنطقة ويمكّن الولايات المتحدة من أجل السعي إلى تحقيق أهدافها في المنطقة وأن يضعف الحكومة الموالية لإيران في بغداد.
كما سيسمح توطيد العلاقة الأمريكية-الكردية وتعزيز الوجود العسكري في كردستان العراق للولايات المتحدة بالحفاظ ظاهريًا على التزامها بـ “التحالف العالمي لهزيمة تنظيم ’الدولة الإسلامية‘”. كما سيخوّل تواجد عسكري متزايد في كردستان الولايات المتحدة ممارسة ضغوط قصوى على الحكومة الإيرانية وميليشياتها إلى حين التوصل إلى اتفاق نووي أكثر شموليةً. وفي نهاية المطاف، سيرحب حلفاء الولايات المتحدة، على غرار إسرائيل والسعودية والإمارات العربية المتحدة بهذا التطوّر في أعقاب الانسحاب من بغداد.
وبما يتناقض مع ما هي الحال عليه مع السياسيين في بغداد، ما من علاقة ودية بين قيادة حكومة إقليم كردستان وإيران رغم حاجة هذه الحكومة إلى التنسيق مع جارتها من جهة الشرق بفضل نفوذ هذه الأخيرة الإقليمي وقربها الجغرافي. وبسبب جموح الشريحة الكردية المتواجدة في إيران، تخلت هذه الأخيرة عن الأكراد وتركت مصيرهم في يدي صدام حسين في عدة مناسبات وهي تعارض استقلال الأكراد.
ومع تمركز القوات الأمريكية في إقليم كردستان، ستتمكن الولايات المتحدة أيضًا من تجنب أي من التداعيات المحتملة الناتجة عن التقسيم المستقبلي المستبعد ولكن المحتمل للعراق. ونظرًا إلى أنه من المستحيل معرفة إلى أين ستؤدي الاحتجاجات المستمرة والهجمات المضادة في بغداد وغيرها من المدن الكبرى، لا يجب استبعاد أن تتطور لتتحول إلى حرب أهلية بسبب العنف المتجلي أساسًا.
لكن في ظل مثل هذا الانقسام، قد تدفع علاقة متينة مع حكومة إقليم كردستان والإبقاء على تواجد القوات الأمريكية على المدى الطويل بأمريكا إلى النظر في نهاية المطاف في الاعتراف رسميًا بدولة كردية، وهو هدف لطالما سعى الشعب الكردي إلى تحقيقه لكنه تبخر في أيلول/ سبتمبر 2017 حين نجحت حكومة إقليم كردستان في إجراء الاستفتاء بشأن الاستقلال بسهولة ولكنها عجزت عن حشد دعم دولي لنتائجه. وإذا ما كان سيُصار إلى تعزيز مكانة بغداد كأحد وكلاء إيران، من شأن استقلال الأكراد أن يمارس ضغوطًا مالية إضافية على حكومة تعاني أساسًا لسدّ عجزها، ما يعزّز مغزى إعادة تركيز القوات الأمريكية في إقليم كردستان العراق الآن.
وأخيرًا، تُظهر التطورات التي شهدتها الأسابيع الفائتة أنه يجدر بالولايات المتحدة أن تفكر جديًا بالخروج من بغداد والترحيب بخيار الالتزام الشديد بالتعاون العسكري مع حكومة إقليم كردستان. ومن المرجح أن تكون إعادة التموضع الاستراتيجي هذه– التي تمثل الحل الوسط بين البقاء في بغداد والخروج منها- أن يعود بفائدة أكبر على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ويساعد على إرساء الاستقرار في المنطقة أيضًا.
إيريك بوردنكيرشر
معهد واشنطن