نشرت صحف إيطالية كبيرة مثل «ريبوبليكا» و«إل كورير ديلا سيرا» خبر نشر تنظيم «الجبهة الأوروبية – السورية» الموالي للنظام السوري مئات الصور الكبيرة للجنرال قاسم سليماني في كبريات المدن الإيطالية وذلك ضمن حملة دعائية أطلقت قبل أيام في ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاته. ونشرت مواقع إخبارية إيرانية الخبر على نطاق واسع، كما عرض التلفزيون الحكومي تقريراً لمراسله في روما ضمن نشراته الإخبارية، وهو ما أثار جدلاً داخل إيطاليا، ونسب موقع «روسيا اليوم» لصحافيين إيطاليين أقوالاً تحتفي بـ«التضحيات الكبيرة» لـ«البطل الأممي الذي خدم الإنسانية وهزم الظلم»، فيما نشر موقع «الحرة» الأمريكي «تغريدات» لإيطاليين تتساءل عما تفعله صور سليماني في «إيطاليا بلد الفن والثقافة»، واتهامات للأحزاب الفاشية بمساندة التنظيمات الشيوعية في هذا الحدث.
وبغض النظر عن الدلالات المتناقضة لهذا الحدث الرمزيّ فإن تحركات طهران على الأرض للرد على مقتل سليماني والتي شابتها الأخطاء الجسيمة، كما حصل في إسقاط الطائرة الأوكرانية، والتعثّرات، كما حصل في فشل إطلاق قمرها الصناعيّ العسكريّ، بدأت تتخذ منحى يدلّ على إحساسها بالقدرة على استعادة التوازن.
بداية فقد تراجع الاتحاد الأوروبي عن استخدام «آلية فض النزاع» المنصوص عليها في الفقرة 36 من الاتفاق النووي، الأمر الذي كان سيقود إلى معاودة الأمم المتحدة للعقوبات على إيران، وهو ما يعتبر انتصاراً دوليّاً (ولو مؤقتا) لطهران، فإذا أضفنا الحجم السياسي الوازن للاتحاد الأوروبي إلى كل من روسيا والصين، اللتين تعتبران مناصرتين لطهران، فإن هذا يعني أن الجمهورية الإسلامية ما زالت قادرة على اللعب على التوازنات الدولية وإيجاد مكان لها يمنع الولايات المتحدة الأمريكية من استفرادها.
تقوم الحسابات العالمية مع إيران على خلفيّات متعددة، مثل التخديم على التوازنات مع القوى الكبرى في العالم كأمريكا وأوروبا، بالنسبة لروسيا والصين وأوروبا، ومنها الوصول إلى موارد نفط أرخص، كما هو حال اليابان والدول الآسيوية عموما، ومنها عدم الانجرار إلى مخاطر هوّة الحروب السوداء، كما حصل في أفغانستان والعراق، وهذا ما دخل حتى الحسابات الأمريكية المحلية التي عبّر عنها قرارا الكونغرس ومجلس الشيوخ الأمريكيين بتقييد قرار شنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حرباً على طهران.
أما في المنطقة العربية و«الشرق الأوسط»، الذي هو مجال حيويّ كبير لإيران، فإن العلاقة مع الجمهورية الإسلامية تتّسم بتوازنات أشد تعقيداً، بسبب الوجود والتدخل الإيراني العسكري والأمني والسياسي والمالي المباشر، كما هو الحال في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بحيث تتخذ هذه العلاقة أشكال التحالف مع نظم سياسية وأحزاب واتجاهات سياسية، والصراع الدمويّ مع نظم وأحزاب واتجاهات سياسية أخرى.
ضمن هذا الصراع، تتعرّض إيران لصعوبات كبيرة تساهم فيها العقوبات والمراقبة الأمريكية، التي سجلت أول من أمس غارة على سفينة ومصادرة مئات الصواريخ المتوجهة إلى اليمن، كما أن الضربات الإسرائيلية لا تني تتواصل على مواقع وقوى محسوبة على إيران في سوريا.
من جهة أخرى، فقد سجّلت إيران تدخّلاً عسكرياً كبيراً في إدلب وحلب السوريتين، وهو ما نتج عنه استعادة النظام لمناطق واسعة، كما تمكنت من تمرير حكومة حسان دياب اللبنانية، التي حازت على الثقة، وهي تحاول تمرير حكومة محمد علاوي في العراق، كما أنها تمكنت، باستخدامها أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في إحداث شرخ كبير في الحراك العراقي، وما زالت قوات «أنصار الله» الحوثيين محافظة على قوتها وتماسكها وسيطرتها على صنعاء ومحافظات عديدة في اليمن.
يضاف إلى كل ذلك أن السلطات الإيرانية تمكنت من قمع حراكين إيرانيين كبيرين خلال فترة شهور، وهي تستعد حاليا لانتخابات برلمانية يستبعد منها آلاف المرشحين المعتدلين والإصلاحيين، وهو ما يعني أن البلاد ستحظى ببرلمان يسود فيه المتشددون، وكل هذا يعني أن الحصار والعقوبات والأزمات تدفع إيران نحو التشدد فهل ستبقى قادرة على موازنة كل هذه التناقضات؟
القدس العربي