نعيش اليوم زمنا معقدا التبس فيه كل شيء. أصبح بإمكاننا، في ظل الثورة المعلوماتية والرقمية والتواصلية أن نضع كل شيء تحت المجهر لتحليله وفهمه وتدقيق تفاصيله نظرا للتدفق الكبير للمعلومات. لكن في الوقت نفسه، فقد منحتنا هذه الثورات أيضا كل إمكانات المواربة والتضليل واللعب بالحقائق، بإظهار جزء منها قد يكون شكليا، وإخفاء الجوهر، وتوجيه الرأي العام وفق هذه المعطيات.
إلى درجة التباس المؤامرة بنظرية المؤامرة. ندرك سلفا أنه من الطبيعي أن يرفض الباحث الجاد والموضوعي، إلصاق كل الهزائم العربية الأكثر تراجيدية بالآخر، وتحميله ما اقترفته اليد العربية نفسها من خلال عجزها وتواطؤاتها المختلفة، المعلنة والسرية، وربط كل شيء بفكرة نظرية المؤامرة التي يقف وراءها دوما من يتربصون شرا بالعرب، لأنها في النهاية مجرد حالة اختزال لحقائق معقدة، واستغناء عن التحليل. يدرك العرب اليوم أن مأساتهم نبتت منهم وفيهم، وهم من أنشأ وأنتج الممارسات التاريخية التي تشلهم وتشدهم إلى الأرض، وتعطلهم عن تحقيق القفزة النوعية، وأن النمط التسييري للدولة؟ العربية ومؤسساتها كان كارثيا، لأنه بني أصلا على المصالح الأيديولوجية والشخصية ومصالح المجموعات المتنفذة، بالخصوص الدول التي اختارت النظام الاشتراكي وكانت تشكل نموذجا خاصا للتطور، والتي تحولت فيها البيروقراطية البائسة إلى بديل للدولة. وعلى الرغم من المكاسب الاجتماعية التي تحققت، إلا أن جانب تسيير الدولة ظل معطلا حاملا في جوهره عطالة المصدر في تجلياته البيروقراطية، وأي وقوف ضد الإيديولوجية القاتلة وضد البيروقراطية اعتُبِر وقتها مروقا ووقوفا ضد خيارات الدولة وضد الشعب.
الخراب الداخلي تسبب، ويتسبب فيه، من لم يروا إلا أنفسهم في المرايا الذاتية والاجتماعية ولم يذهبوا إلى أبعد من ذلك. مصالحهم الخاصة فوق أي اعتبار. كثيرا ما اعتمدت الدكتاتوريات العربية على هذا النوع من الخطابات لكي تبرئ نفسها، لأنها أيضا لا تملك حلولا، وهي من أوصل البلدان العربية إلى عنق الزجاجة وسد كل المسالك الممكنة للخروج من التخلف، وهي أيضا من دمر كل شيء بعد أن قتل نواة الحلم، ورهن المستقبل. فظهرت، بدل حكام غيورين على مصالح بلدانهم، مافيا متسلطة لا حساب لها إلا كيفية الاستيلاء على المال العام. حفنة بشرية، تاريخها غامض، عاشت في مناخات المؤامرات والانقلابات، هي من يتحكم في خيرات البلاد وتسيرها كما يروق لها. الأنظمة العربية إذن، ومن هذا المنظور، مسؤولة كليا عما حصل ويحصل عربيا، وما انتهى إليه العالم العربي من انهيارات وخراب وفقدان كلي للأمل. وهي من حول الشعوب العربية إلى رعايا بدل مواطنين لهم حقوق وأمامهم واجبات. هذا كله نبت على الأرض العربية وبأيد عربية، ولا يمكنه أن يكون وليد مؤامرة من الآخر. لكن أيضا، وهذا ليس سرا، يحتاج الإنسان إلى أن يكون أعمى كليا لكي لا يرى أن وراء الكثير مما يحدث في العالم العربي، أيادي قوية توجه الرياح وفق مصالحها الحيوية. وأن حسابات تدمير العالم العربي وتحويله إلى مجموعات وقبائل وطوائف وكيانات مفككة تابعة للنظام الدولي الجديد، خضع ويخضع اليوم لآلة معقدة أُنشِئت خصيصا في المخابر العالمية للإجهاز على أية إمكانية للخروج العربي من التخلف، لأن ذلك ستتلوه تغيرات عميقة في المجال الجيوسياسي. حسابات تأمين إسرائيل والتحالف الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي ليست مسائل ثانوية ولا علاقة لها بنظرية المؤامرة. تأمين إسرائيل يتم بالضرورة بتدمير محيطها العربي القوي والمعادي الباحث عن التوازن معها، والمتمثل في الثالوث التاريخي: العراقي- السوري- المصري. وهو ما تم بالفعل في السنوات الأخيرة بضرب العراق في حربي الخليج، وتفكيك سوريا وتحجيم دور مصر. في هذه الإستراتيجية الاستعمارية من حيث الجوهر، هناك ما هو عاجل وآني، وهناك ما يمكنه أن ينتظر. العراق وسوريا تدخلان في عنصر العاجل لأن خطرهما على الأمد المتوسط والطويل، كبير على إسرائيل، بسبب الحدود والقوة العسكرية أيضا. فقد طور البلدان ترسانة عسكرية كبيرة كان بإمكانها أن تحدث بعض التوازن بما في ذلك فرصة امتلاك النووي مقابل النووي الإسرائيلي، لو كانت الخيارات الإستراتيجية صحيحة واللحمة الداخلية مضمونة. فقد سيطرت إسرائيل، في السنوات العشر الأخيرة، على عصب الحرب ووسائل الاتصال والتحكم في كل ما هو جو بحيث تم تعطيل الترسانة الحربية الأرضية العربية بسبب التفوق في السلاح الجوي والأقمار الصناعية.
وهو ما تم اختباره في حربي الخليج حيث تحولت الدبابات العراقية إلى كتل مرمية في الصحراء. لا يمكن أن تؤخذ نظرية المؤامرة مفصولة عن السياقات الدولية لأنها تتعلق بقضية المسؤولية وربطها بما لحق العالم العربي من حكامه، ولكن أيضا من القوى الدولية التي تهمها المصلحة الأساسية لبلدانها. هذه النظرة الثنائية تحمّل الأنظمة المسؤولية التاريخية لما يحصل اليوم من تفكك وانهيار، ولكنها لا تخلي سبيل القوى الدولية المهيمنة والنظام الدولي الجديد.
ما حصل ويحصل للعالم العربي محكوم بأنظمة لم تجد النموذج المحدث للقطيعة مع ممارسات القرون الوسطى في الحكم أو النظام المافيوي، لكن أيضا، هذا العالم العربي لا ينشأ محاطا بفراغات كثيفة ولكنه يكبر في عالم تخترقه المصالح الإستراتيجية التي تحتاج إلى إيديولوجية تخفيها و تمررها بسرية وذكاء.
المصالح ليست لعبة ولكنها مسألة وجودية، سيدها الاقتصاد والحماية العسكرية وغيرهما. تشكل المحروقات، على الرغم من تراجعها الشكلي، العصب الأساسي في هذا الاقتصاد، الذي تبنى عليه رهانات نصف القرن المقبل. يشكل ضمانه حتى نفاذه واحدة من المعضلات التي تؤرق الغرب في ظل صعود ثورات داخلية رافضة، وقوى منافسة اقتصاديا وحاجاتها النفطية والغازية ضخمة بل ومهولة كالصين وروسيا وكوريا والهند واليابان وغيرها. كما تشكل حماية إسرائيل، هاجسا مركزيا غربيا. فهي الشرطي الناظم لهذه المصالح بحكم قربها ومعرفتها للذات العربية الممزقة والمرتبكة والتي تدفع بالدول العربية الضعيفة إلى البحث الدائم عن الحماية الأمريكية، وبدرجة أقل الحماية الأوروبية. فهي المراقب لكل تحرك عربي الذي ينام على بحيرة نفط تغري الكثير من المغامرين بما فيهم إسرائيل. كل الحروب الحديثة العربية وكل المؤامرات أيضا التي استهدفت العالم العربية، بنيت عل هذين العنصرين: النفط وإسرائيل. من اتفاقية سايكس بيكو التي تمّ بموجبها زرع إسرائيل ككيان مستقل في عمق الجسد العربي، إلى الحروب العربية الإسرائيلية، إلى حرب الخليج الأولى والثانية، إلى نشوء الإسلام المسلح الذي أنتج أخطر آلتي تدمير ذاتي: القاعدة وداعش، يستمر تفكيك عالم عربي لم يكن دائما مشرقا، لكن وجوده وحده كان كافيا ليشكل هاجسا غربيا وإسرائيليا مخيفا، في ظل حماية التوازنات الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية. لم يعد خفيا اليوم أن هناك تقسيما جديدا للعالم، تلعب فيه الإمبراطورية الأمريكية الدور الحاسم في لعبة استباقية معقدة، بعد أن وضعت يدها على منابع النفط الأساسية، وهذا يفترض حتما سلسلة من الحسابات أو بمعنى أدق، سلسلة من المؤامرات، يكون ضحيتها بلا أدنى شك، العالم العربي، لأنه من حسن أو سوء حظه، يملك المادة الحيوية والإستراتيجية (النفط)، التي يقايض بها الحماية والتطور، لكنه لا يعرف كيف يستغلها ويوجهها نحو مصلحته ومصلحة شعوبه.
واسيني الأعرج
القدس العربي