أعلنت أنقرة أمس الأحد، على لسان وزير دفاعها خلوصي أكار، أن «درع الربيع»، العملية العسكرية التي تشنّها ضد قوات نظام بشار الأسد وحلفائه في إدلب ومناطق أخرى، تهدف إلى إنهاء مجازر نظام الأسد، ووضع حد للتطرّف، وإيقاف الهجرة»، ورغم تأكيد أكار على أن لا نية لبلاده لـ«التصادم مع روسيا» فإنها، في المقابل، تنتظر استخدام موسكو لوقف هجمات النظام وإجباره على الانسحاب إلى حدود اتفاقية سوتشي.
كان رئيسا تركيا وروسيا قد اتفقا في 17 أيلول/سبتمبر 2018 على «إقامة منطقة منزوعة السلاح بعرض يتراوح ما بين 15 إلى 20 كيلومترا على طول خط التماس» بين سوريا وتركيا، على أن تقوم تركيا بإخراج «الفصائل الجهادية» ونزع أسلحتها الثقيلة من دبابات وصواريخ ومدافع هاون، وعلى أن تقوم شرطة البلدين بمراقبة المنطقة «منزوعة السلاح»، وعلى فتح حركة المرور بين حلب واللاذقية، وبين حلب وحماه.
الأمر الذي لم يتمّ الاتفاق عليه بين الدولتين، كان هجوم النظام السوري وحلفائه من ميليشيات إيرانية ولبنانية على «منطقة خفض التصعيد» وانتزاعها بالقوة، والذي أدى لفظائع وحشيّة خلفت مئات القتلى من المدنيين، كما أدى إلى نزوح مئات الآلاف باتجاه الحدود التركيّة، وهو ما يمكن اعتباره إخراجاً قسريا لتركيا من «الاتفاق» وتحميلها مسؤولية قرابة مليون نازح جديد.
وحين تبع ذلك استهداف مباشر لنقاط مراقبة الجيش التركي وعناصره فيها كانت ذروته قتل 32 جندياً وجرح العشرات قبل أيام، بدا واضحا لأنقرة أن المقصود هو إخضاع روسيا للقيادة التركيّة بالقوّة وفرض شروط جديدة عليها، الأمر الذي لا يعد إخلالا بالاتفاقات فحسب بل يمثل خطرا وجودياً على الدولة التركيّة نفسها.
امتحان روسيا لقدرة تركيا على التحمل جاء على خلفيّة خروج الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا و«حلف الأطلسي» من معادلة مقتلة الشعب السوري على يد نظام الأسد، وباستثناء الحركة الاستعراضية المفردة التي قام بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقصف مطار سوري بعد إبلاغ الروس بموعد الضربة لإخلائه، فإن الموقف الأمريكي – الأوروبي تركّز على مكافحة تنظيم «الدولة الإسلامية» وتمكين حزب العمال الكردستاني الذي ما زال مسيطرا على مناطق ذات أهمّية اقتصادية وعسكرية في شمال غرب سوريا، واستقبال بعض بلدانه للاجئين السوريين.
مع ترك الغرب لتركيا بمواجهة روسيا بمفردها، ورفضه إمدادها بمنظومة دفاع باتريوت، أو بحظر المجال الجوي السوري على الطيران السوري والروسي، تمكنت أنقرة من حل المشكلة باستخدام الطائرات المسيّرة المتطورة التي ساهمت مع وحدات المدفعية بتدمير أنظمة دفاع جوية للنظام، وكذلك باستخدام «أنظمة الحرب الالكترونية» وطائرتي بيرقدار وأنكا، مما أخرج عدة مطارات عسكرية للنظام من الخدمة وإسقاط ثلاث مقاتلات وتقدم لقوات المعارضة السورية على الأرض (وكذلك لاشتباكات مع النظام في الجنوب).
تغيّرت المعادلة التركيّة ـ الروسيّة بعد تمكّن القوات المسلحة التركيّة من إحداث تغيير نوعيّ في جبهة الشمال السوري، وهو ما يفتح الباب لاتفاق جديد يتجنّب فيه الأتراك ثغرات الاتفاق القديم، وأهمّها تركيز الروس على «ملاحقة الإرهابيين»، والذي تستخدمه موسكو لاستهداف قرابة ثلاثة ملايين ونصف المليون مدني، ومحاولتهم تقليص مساحة وجود الأتراك إلى عمق 5 إلى 10 كيلومترات، وكذلك اللعب الروسي على أن الاتفاق مؤقت، وهو ما تريد أنقرة تغييره لمنع خرقه لاحقا، إضافة إلى قضايا أخرى كالدوريات المشتركة وسراقب وجبل الزاوية، ونقاط المراقبة، والحظر الجوي.
على عكس روسيا، التي تقوم استراتيجيتها على دعم نظام متهالك ووحشيّ واقع تحت عقوبات دولية كبرى (ستزيد بشكل كبير مع تطبيق قانون سيزر الأمريكي خلال أشهر)، فإن تركيا تدافع عمليا عن وجودها القوميّ، وهو ما عبّر عنه اردوغان بالقول إنه «في حال لم نقاتل في إدلب فسنقاتل في جنوب تركيا لاحقا»، وبالتالي فإن المواجهة الآن بين الغطرسة الامبريالية الروسيّة ودفاع المستميت، الذي يذكر الأتراك بالطبع بأهداف روسيا خلال الحرب العالمية الأولى، والتي كانت موعودة من الغرب بتسلم إسطنبول لاستعادة مركز الأرثوذكسية المسيحية القديم، وبين الموقفين فارق هائل.
القدس العربي