بعد التطورات الميدانية العاصفة التي شهدتها مناطق محافظة إدلب وجوارها المشمولة باتفاق سوتشي (أيلول/سبتمبر 2018) منذ مقتل الجنود الأتراك الـ34، تتجه الأنظار إلى موسكو حيث سيلتقي الرئيسان التركي والروسي، الخميس، لوضع توافق جديد ينهي دورة الصراع الحالية وينشئ ستاتيكو جديدا، سيكون مؤقتاً كسوابقه، بالنظر إلى اختلاف الأهداف بين الشريكين التركي والروسي. ما هي أوراق القوة التي يملكها كل من الطرفين من أجل فرض رؤيته للحل المؤقت؟ وما هي الرسائل التي أطلقاها عشية القمة؟
الضربات التركية المركزة لميليشيات الأسد وحلفائه ومواقعهم العسكرية وبعض المطارات، إضافة إلى إسقاط طائرتي سوخوي وأخرى مروحية، شكلت مفاجأة غير متوقعة دفعت كثيرين إلى المبالغة في أهداف الحملة التركية وآفاقها السياسية المحتملة وقدرات تركيا العسكرية. غير أن الوقائع الميدانية تقول إن سر نجاعة الحملة يكمن في استخدام الطائرات المسيّرة المسلحة التي حققت خسائر كبيرة في صفوف ميليشيات النظام ومواقعه وقدراته العسكرية، تلك الطائرات التي لا يسمح اتفاق سوتشي 2018 بتحليقها فوق منطقة خفض التصعيد، بل يسمح فقط بتحليق درونات غير مسلحة لأغراض تزويد نقاط المراقبة التركية باحتياجاتها العادية، أو لأغراض المراقبة. هذا يعني أن الدرون التركي المسلح ضرب مواقع النظام بغض نظر روسي، لكي يكون بوسع تركيا الانتقام لمقتل جنودها، لامتصاص الصدمة التي شكلها مصرع الجنود الـ34 في المجتمع التركي. ولم يكن لدى بوتين أي مانع في أن يتلقى تابعه الأسدي هذه «العلقة الساخنة» ليجدد إدراكه بأن مصيره في يد بوتين فـ»يسمع كلام» سيده بلا نقاش.
لكن الحملة التركية لم تحقق، عدا إيقاع الخسائر بالميليشيات، أي مكاسب استراتيجية يمكن البناء عليها لفرض شروط معينة على روسيا. صحيح أن الفصائل سيطرت على سراقب وبعض القرى، لكن النظام الكيماوي سرعان ما استعادها. والجديد أن الشرطة العسكرية الروسية ظهرت في المدينة الواقعة على تقاطع طريقي M5 وm4 رافعةً العلم الروسي، في رسالة غير قابلة للتأويل بأن سراقب باتت تحت الحماية الروسية ولا يمكن لتركيا أن تستهدفها بعد الآن.
كذلك جاءت تصريحات الناطق الرئاسي الروسي حول «عدم ضمان موسكو» سلامة الطائرات التركية المسيرة فوق المنطقة، لتضع حداً صريحاً للغارات التركية من غير حاجة لرسائل أكثر عنفاً بإسقاط طائرات تركية مسيرة مثلاً، أو حتى باستهداف طائرات F16 التي شاركت في قصف مواقع ميليشيات النظام من داخل الأراضي التركية. وارتفعت وتيرة التصعيد في التصريحات الروسية الممهدة لقمة الرئيسين، فقال الناطق الرئاسي الروسي إن تركيا خرقت القانون الدولي وموجبات اتفاق سوتشي.
الضربات التركية المركزة لميليشيات الأسد وحلفائه ومواقعهم العسكرية وبعض المطارات، إضافة إلى إسقاط طائرتي سوخوي وأخرى مروحية، شكلت مفاجأة غير متوقعة دفعت كثيرين إلى المبالغة في أهداف الحملة التركية وآفاقها السياسية المحتملة وقدرات تركيا العسكرية
يبقى بالنسبة لتركيا أنها عضو في حلف شمال الأطلسي، وهو ما يلجم بوتين من أي استهداف عسكري مباشر لتركيا داخل حدودها. أما في إدلب فالوضع مختلف، وتستطيع روسيا أن تضع حداً للهجمات التركية هناك من غير خشية من تدخل أطلسي، لأن سوريا كلها تحت سيطرتها العسكرية بموافقة ضمنية من واشنطن وحلفائها الأطلسيين. وهو ما ظهر في اجتماع الحلف الذي لم يخرج بقرارات تدعم تركيا عسكرياً في سوريا، واكتفت واشنطن، إلى الآن، بدعم لفظي لن يكفي لتعزيز الموقف التركي إزاء روسيا.
زيارة كل من الممثل الخاص جيمس جيفري والسفيرة كيلي كرافت إلى أنقرة وأنطاكية الحدودية، عشية قمة موسكو، شكلت أقصى ما يمكن لإدارة ترامب أن تقدمه لأردوغان قبل لقائه ببوتين. وقد تحدث جيفري وكرافت عن تزويد تركيا بمعدات عسكرية، مع استمرار البحث في الطلبات التركية الأخرى، وبخاصة بطاريات باتريوت التي قد تشكل فارقاً ميدانياً إذا تم تزويد تركيا بها. لكن ذلك مستبعد بالنظر إلى استمرار الرفض الأمريكي والأطلسي لشراء تركيا صواريخ إس 400 الروسية التي سبق وأدت إلى إخراج تركيا من برنامج تصنيع طائرات إف 35 المتطورة.
أمام ضيق هامش الخيارات في وجه تركيا، لجأت هذه إلى لعب ورقة فتح الحدود أمام اللاجئين باتجاه اليونان وبلغاريا، في محاولة للضغط على الحلفاء لكي يقفوا معها بجدية في مواجهة موسكو والنظام الكيماوي المندفع للسيطرة على مزيد من الأراضي في منطقة خفض التصعيد. لكنها لعبتها برعونة أثارت ردود فعل الدول الأوروبية بدلاً من كسبها إلى صف تركيا. صحيح أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل دعت إلى قمة رباعية تجمعها إلى ماكرون وبوتين وأردوغان للتباحث حول وضع إدلب، لكن بوتين رفض الدعوة بصلافة، ليستفرد بأردوغان في موسكو ويحاول أن يفرض عليه رؤيته التي لخصها لافروف بقوله: «لن تجعلنا أزمة اللاجئين نتوقف عن محاربة الإرهابيين».
في المباحثات المكثفة التي جرت في أنقرة بين الأتراك والروس، عرض هؤلاء على تركيا شريطاً حدودياً بعمق 5 كيلومترات لإيواء المليون نازح مدني وكمنطقة سيطرة للقوات التركية التي دخلت المنطقة خلال الشهر الماضي، لكن الجانب التركي رفض العرض. من المحتمل أن يعود بوتين إلى تقديم العرض نفسه، أو تعديل طفيف عليه، لإرضاء ضيفه التركي الذي يحتاج إلى إنجاز ما أمام الرأي العام الداخلي الغاضب من تورط القوات التركية في مغامرة غير مضمونة العواقب. مقابل مواصلة الطيران الروسي قصف المستشفيات والمدارس كما أثبت أحدث تقرير للجنة تحقيق أممية حول جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في فترات سابقة، وصولاً إلى فرض سيطرة ميليشيات الأسد والميلشيات الشيعية الحليفة على كامل مساحة المحافظة.
هل يمكن قلب هذا المسار وتغيير معادلات القوة على الأرض لغير مصلحة روسيا وتابعها السوري؟ وحده موقف أمريكي حازم تجاه روسيا يمكنه أن يفعل ذلك. وهو ما نرى أنه ما زال غائباً.
بكر صدقي
القدس العربي