في 15 شباط/ فبراير 2020، نظّم «حزب الله» حفلاً لإزاحة الستار عن تمثال لقاسم سليماني في بلدة مارون الراس اللبنانية، على بعد حوالي 800 متر من الحدود مع إسرائيل. ويُظهر التمثال سليماني ويده ممدودة أمامه، مشيراً إلى إسرائيل. وبينما كان مسؤولو «حزب الله» وأنصاره يحتفلون على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، كان الشعب اللبناني يحيي ذكرى مرور أربعة أشهر على الاحتجاجات النشطة بل المؤلمة ضد الطبقة السياسية اللبنانية، التي أدى فسادها وسياساتها الفاشلة إلى انهيار لبنان المالي.
وكانت الشعوب في لبنان وسوريا والعراق وداخل إيران نفسها – الدول التي تقع على طول “الهلال الشيعي” – قد أدركت أن العدو موجود في الداخل. ويتمثل بحكوماتهم التي سمحت للنظام الإيراني بالاستيلاء على الدولة ومؤسساتها. فالأيديولوجيات وخطابات المقاومة والهويات الطائفية ونظريات المؤامرة التي جسّدت الهويات والآراء الجماعية للمجتمعات الشيعية في جميع أنحاء المنطقة، تتفكك ببطء بل بثبات وتحلّ محلها مخاوف اقتصادية وتطلعات كبيرة باتجاه المواطنة والهويات الوطنية.
وأخيراً فإن “الهلال الشيعي”، الذي كانت إيران تستثمر فيه لعقود من الزمن، ينقلب على النظام الإيراني ووكلائه. فمن بيروت إلى بغداد، وصولاً إلى طهران، تواجه إيران خصمها الأكثر تعقيداً منذ سنوات المتمثل بالمتظاهرين الشيعة. وبالنسبة للجمهورية الإسلامية، يتواجد العدو في الداخل أيضاً، وهو الذي لا يمكن احتواؤه من دون حدوث اضطرابات عنيفة تضرب استراتيجياتها الخاصة وتحالفاتها السياسية في جميع أنحاء المنطقة.
وربما لم تفكر إيران قط أن تحديها الرئيسي سوف ينبثق من المجتمعات الشيعية نفسها. فقد كان النظام في طهران يعتمد استراتيجية واحدة في جميع أنحاء المنطقة، تتمثل في: تعزيز الهوية الشيعية، وإغداق الأسلحة والمال على الوكلاء، واكتساب صورة الأب للشيعة من خلال الحلول محل الدولة ومؤسساتها. غير أن النظام لم يدرك قط أنه في أعقاب جميع تلك الاستثمارات في الموارد والشعب، وبعد تحقيق كافة تلك الانتصارات العسكرية في لبنان وسوريا والعراق، كان الشعب – وخاصة الشيعة – بحاجة إلى ترجمة عملية لتلك الانتصارات تتمثل بتوفير المزيد من موارد العيش – وليس القليل منها – وتأمين مستقبل أفضل لأطفالهم. لكن الواقع كان عكس ذلك تماماً. ففي ظل غياب رؤية اجتماعية -اقتصادية للعواصم التي تسيطر عليها إيران، لم تعد ظروف العيش مقبولة.
الشعب مقابل اقتصاد المقاومة
بدأ أسوأ كابوس في إيران عندما بدأ العراقيون – معظمهم في البلدات والمدن الشيعية – يرددون هتافات على غرار “إيران برا برا، بغداد حرة حرة”، وحين نزل اللبنانيون إلى الشوارع وهم يحملون شعاراً موحداً: “كلن يعني كلن”. وتحوّل هذا الكابوس إلى تحدٍ خطير عندما أضرم المحتجون العراقيون النار بقنصليات إيرانية وحين شمل المحتجون اللبنانيون [الأمين العام لـ «حزب الله»] حسن نصرالله واعتبروه من بين الشخصيات السياسية اللبنانية الفاشلة، وحمّلوا الحزب مسؤولية المصائب التي يعيشها لبنان.
إن إيران ووكلاؤها – الذين وعدوا المجتمعات الشيعية منذ فترة طويلة بمحاربة الظلم وتمكين الهوية الشيعية – يتعرضون للوم حالياً على هذا الظلم والقصور. ويُعزى ذلك في الغالب إلى عَيْبيْن رئيسيَيْن يشوبان استراتيجية إيران في هذه البلدان.
أولاً، من أجل النفاذ إلى مؤسسات الدولة، أقامت إيران تحالفات مع شخصيات وأحزاب سياسية محلية. ولا يكفي تشكيل ميليشيات وجِهات وكيلة مسلحة، إذا كانت غير قادرة على السيطرة على قرارات الدولة وبنيتها الأساسية. وبالنسبة لإيران، من السهل دائماً إقامة تحالفات مع سياسيين فاسدين، إما من خلال رشوتهم بشكل مباشر أو وعدهم بمناصب يمكنهم من خلالها النفاذ إلى موارد الدولة.
على سبيل المثال، ليس من قبيل الصدفة أن حلفاء «حزب الله» في لبنان هم الشخصيات الفاسدة التي يريد المحتجون محاسبتها. فقد استفاد هؤلاء الحلفاء – مثل رئيس مجلس النواب نبيه بري ووزير الخارجية السابق جبران باسيل – من هذا التحالف مع إيران (سياسياً ومالياً) لكنهم وفّروا أيضاً لـ «حزب الله» النفاذ الذي أراده. على سبيل المثال، يملك الحزب 13 مقعداً من إجمالي المقاعد البالغ عددها 128 في البرلمان اللبناني الحالي. غير أنه وبفضل حلفائه، يسيطر الحزب على أكثر من 70 نائباً. وينطبق الأمر نفسه على الحكومة ومؤسسات الدولة الأخرى.
ثانياً، أوضحت إيران للمجتمعات الشيعية في لبنان والعراق وإيران أن الوقت قد حان لكي تدفع هذه المجتمعات ثمن سنوات من الخدمات المجانية والتمكين السياسي والانتصارات العسكرية السريعة. وحين بدأت العقوبات الأمريكية المفروضة على النظام الإيراني تستنزف ماليته، أثر ذلك على الشعب الإيراني ووكلاء طهران وجماهيرهم الانتخابية.
وكان من الواضح أن مالية «حزب الله» قد تضررت وجرى تعليق العديد من خدماته الاجتماعية. وفي النهاية، توقف الحزب عن دفع أجور موظفيه المتعاقدين وبدأ بطرد أولئك غير الأساسيين، وخاصةٍ الذين جرى توظيفهم خلال الحرب السورية، ولم يعد بحاجة إلى خدماتهم. وكان يُتوقّع من شيعة لبنان أن يصمدوا ويثْبتوا ولاءهم في ظل تطبيق «حزب الله» نسخته الخاصة من اقتصاد المقاومة.
ويحاول الكثيرون أن يكونوا مخلصين ويأملون في أن تنتهي الأزمة المالية لـ «حزب الله» مع تغلّب إيران في النهاية على الولايات المتحدة في المنطقة، أو هذا ما يقنعون أنفسهم به لأنه ليس لديهم خيار آخر. لكن الكثيرين يرفضون دفع الثمن، وقد شهدت المدن الشيعية الرئيسية الثلاث في لبنان احتجاجات واسعة النطاق، على الرغم من التخويف المستمر الذي يعتمده «حزب الله» وتهديداته للمتظاهرين.
ويعتبر الكثير من الشيعة في لبنان والعراق أنهم دفعوا بالفعل ثمن الهيمنة الإيرانية، ولا يرغبون بعد الآن في أن يكونوا الأغلبية الصامتة. غير أن للتعبير عن الرأي ثمنه أيضاً. فوفقاً لـ “منظمة العفو الدولية”، قُتل أكثر من 500 متظاهر في العراق وأكثر من 300 في إيران نتيجة أعمال القمع العنيفة ضد المحتجين. وفي لبنان، “قوبلت الاحتجاجات بقوة مفرطة وغير قانونية، وتقاعست قوات الأمن عن التدخل بشكل فعال لحماية المتظاهرين السلميين من اعتداءات جماعات سياسية منافسة”.
وسيكون من الصعب جداً على إيران ووكلائها الخروج من هذه الأزمة. فلم يعد الشيعة في هذه الدول يؤمنون بأن الأيديولوجيا الإيرانية هي الحل أو أن استراتيجية إيران لهزيمة إسرائيل والولايات المتحدة ستنتشلهم من الفقر والجوع. وستنعكس خيبات الأمل هذه – إذا استمرت، أي إذا استمر ضغط المجتمع الدولي على إيران وعملائها – في الانتخابات البلدية والنيابية المقبلة.
غياب سليماني
مع بروز كل هذه التحديات، تم اغتيال قاسم سليماني – الشخص الذي كان يمسك بزمام الأمور ويبقيها متماسكة. وكان مشروع “الهلال الشيعي” الذي وضعه سليماني قد تزعزع بالفعل قبل اغتياله. وقبل ساعات من مقتله، كان سليماني في طريقه من بيروت إلى بغداد عبر دمشق، وهي رحلة كانت ترمز إلى أولوياته وقلقه. ولا يُخفى على أحد أنه كان يسافر بين بيروت وبغداد وطهران لعدة أسابيع قبل مقتله للمساهمة في قمع الاحتجاجات التي شكّلت تحدياً لمشروعه. ومع ذلك، لم يشر نصر الله إلى مقاربة سليماني التي ركزت على الجزئيات في الإدارة والتي ستؤدي في النهاية إلى فراغ خطير في نظام «فيلق القدس» في جميع أنحاء المنطقة.
وبعد عام 2011، أدى تركيز سليماني على الجزئيات في إدارة جميع الميليشيات المدعومة من إيران – بما فيها «حزب الله» – إلى انخفاض قدرة الحزب العسكرية والسياسية على المناورة. وعندما قُتل آخر قائد عسكري لـ «حزب الله» – مصطفى بدر الدين – في سوريا، أصرّ سليماني على استبداله بأربعة قادة أقل مرتبة، ويعزى ذلك جزئياً إلى خسارة «حزب الله» لمعظم قادته الكبار ولم يتوفّر لديه بديل جاهز. لكن السبب الرئيسي – وفقاً لعدد من مقاتلي الحزب – كان رغبة سليماني في بسط سيطرته.
لذلك، كان «حزب الله» يعتمد على سليماني كقائد عسكري. وعلى هذا النحو، فإن الحزب منتشر حالياً على نحو شديد الاتساع ويتعذر عليه الاضطلاع بدور أكبر في العراق أو باقي دول “الهلال الشيعي”. ومن الضروري للحزب أن يجد قائده العسكري الخاص حالياً قبل أن يضطلع بدور سليماني في المنطقة. إلا أنه لا يوجد بديلاً لائقاً لسليماني، وستواجه إيران صعوبات في ملء هذا الفراغ.
لكن ذلك لا يعني أن الميليشيات الإيرانية سوف تخرج عن نطاق السيطرة، أو أن «حزب الله» سيرفض تقديم المساعدة. ففي النهاية، ما زالت الأموال والأسلحة تأتي من إيران. ومع ذلك، لا أحد يتمتع بالعلاقات والثقة والمعرفة التي اكتسبها سليماني على مرّ السنين.
هل ستتعافى إيران
في ظل تزعزع “الهلال الشيعي”، تبذل إيران قصارى جهدها لإنقاذه. فخسارة هذا “الهلال” تعني فقدان القدرة على بسط النفوذ في الشرق الأوسط فضلاً عن خسارة الكثير من الموارد السياسية والمالية. وفجأة، استُنزفت الركيزتان الأساسيتان لهذا “الهلال” – سليماني والمجتمعات الشيعية – وستركز إيران على تخطي هذين التحديين.
ما تحتاج إليه إيران فعلياً الآن هو الحرص على فشل الاحتجاجات المناهضة لها في بيروت وبغداد وطهران. ففي العراق، لم تنجح محاولات إيران لتحويل مسار الاحتجاجات وجعلها مناهضة للولايات المتحدة. وفي إيران، جرى تصوير إيرانيين وهم يتجنبون الدوس على علمي الولايات المتحدة وإسرائيل، بينما لا يزال الشعب اللبناني يتظاهر ضد الحكومة الجديدة التي من الواضح أنها “من صنع «حزب الله»”.
وإذا ما استمرت جميع هذه المحاولات في الفشل، فمن المحتمل أن تزيد إيران ووكلائها من استخدام العنف إلى أن تفقد الاحتجاجات زخمها ونشاطها. وقد نجح «حزب الله» إلى حدّ ما في القيام بذلك في لبنان، كما أن التظاهرات الإيرانية قد خمدت مؤقتاً. ومع ذلك، فحتى لو ترك الناس الشوارع وعادوا إلى منازلهم، فلا تزال التحديات الاقتصادية والاجتماعية قائمة، وفي النهاية سيعيدهم الجوع إلى الشوارع.
هذا، وقد زار رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني لبنان في 18 شباط/ فبراير وأبلغ الرئيس ميشال عون أن إيران مستعدة لمساعدة لبنان مالياً. وبالطبع، يرتبط ذلك باستعداد لبنان للحفاظ على نفاذ إيران إلى المؤسسات اللبنانية. ومع ذلك، ففي الوقت الذي تمر فيه إيران بأزمة مالية خاصة بها، فمن غير المؤكد أنها ستتمكن من تزويد لبنان بـ 9 مليارات دولار نقداً. لكن في ظل اتخاذ «حزب الله» لجميع القرارات في لبنان، ربما لن يسمح الرئيس والحكومة والبرلمان في لبنان بإجراء إصلاحات حقيقية أو قبول شروط المجتمع الدولي. وفي ظل استمرار الاقتصاد بالتدهور، وعجز إيران عن مساعدة الشعب اللبناني، بمن فيهم الطائفة الشيعية، سيخسر «حزب الله» في النهاية الجزء الأكبر من قاعدة دعمه، وهي خسارة سيصعب عليه التعافي منها.
هل الحرب خيار؟
في خضم معركة إيران مع العدو في الداخل، فهل يمكن أن تلجأ إلى الحرب لصرف انتباه العالم – والناس – عن التحديات الحقيقية، وربما إثارة بعض التعاطف؟ لقد لجأت إيران إلى هذه الإستراتيجية من قبل في لبنان، حيث شنّ «حزب الله» عدة حروب ضد إسرائيل، واكتسب التعاطف المحلي والدولي الذي كان بأمس الحاجة إليه.
ومن المحتمل أن تفشل هذه الاستراتيجية هذه المرة، وهو واقع يدركه «حزب الله» وإيران. فثمة ثلاثة أسباب رئيسية لعدم قدرة الحزب على شنّ حرب على إسرائيل في هذه المرحلة. أولاً، لا يملك المال الكافي لتمويل الحرب وتدريب مقاتلين وتجنيد مقاتلين جدد. ثانياً، لا يمكنه ضمان إعادة الإعمار كما حصل في عام 2006 عندما كانت قوى 14 آذار/ مارس الموالية للغرب في السلطة. ثالثاً، لا ترغب الطائفة الشيعية في حرب جديدة مع إسرائيل – بسبب الوضع المالي وواقع عدم استطاعة أبنائها الفرار إلى سوريا أو إلى أجزاء أخرى من لبنان.
ويدرك «حزب الله» أن حرب تموز/ يوليو 2006 كانت الحرب الأخيرة مع إسرائيل التي كانت الطائفة الشيعية على استعداد لتحمل أوزارها وأن الحرب السورية قد استنزفته. لذلك، نقل الحزب المعركة ضدّ إسرائيل من الميدان إلى الخطابات والنصب التذكارية.
أما بالنسبة للصراع المحتمل مع الولايات المتحدة، فإيران تدرك أيضاً أن الحرب ليست خياراً في ظل مواردها المستنفدة. ومن خلال اغتيال سليماني، اتخذت الولايات المتحدة موقفاً واضحاً للغاية، وأن أي رد إيراني يسفر عن سقوط ضحايا أمريكيين قد يستدعي رداً أمريكياً جدياً وخطيراً، وهو تطوّر ليست إيران مستعدة للمخاطرة به. وتحتاج إيران إلى إعادة تعزيز سلطتها في “الهلال الشيعي”، ولا يمكنها تحمّل تكلفة غض الطرف وسط مساعيها لإعادة الطائفة الشيعية إلى أحضانها – بواسطة القوة أو عن طريق السياسة. وهذه هي الأولوية الرئيسية لإيران، ولطالما كانت كذلك. لكنها في الوقت نفسه المهمة الأكثر تحدياً بالنسبة لإيران. فـ “الهلال الشيعي” لم يعد يجذب الشيعة.
حنين غدار
معهد واشنطن