تمرد الحلفاء… معادلة النفط مقابل الولاء تفجّر صراعات موسكو ومينسك

تمرد الحلفاء… معادلة النفط مقابل الولاء تفجّر صراعات موسكو ومينسك

يقدّر المرشح الرئاسي السابق عن المعارضة البيلاروسية، أليس ميخاليفيتش، نسبة الدعم الروسي لاقتصاد بلاده بعشرات النقاط المئوية ضمن الناتج المحلي الإجمالي، بعد استمرار مينسك لسنوات طويلة في الاستفادة من شراء النفط والغاز الروسي بأسعار مخفضة وإعادة تصدير منتجاته بعد تكريرها بالسعر العالمي، وهو رأي يؤيّده المدير العام لمركز تنمية السياسات الإقليمية في موسكو، إيليا غراشينكوف، موضحاً أن اقتصاد بيلاروسيا يعتمد على تكرير وإعادة تصدير الخام الروسي، بينما تنبع شرعية النظام الحاكم من نموذج الدولة الاجتماعية التي لا تعاني من نفس درجة التفاوت بين الأثرياء والفقراء مثل جارتيها روسيا وأوكرانيا.

ويقدر حجم الدعم الروسي للاقتصاد البيلاروسي بـ 106 مليارات دولار خلال الفترة من عام 2005 وحتى عام 2015، وهو ما شكّل نسبة تتراوح بين 11% و27% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي لبيلاروسيا البالغ عدد سكانها 9.5 ملايين نسمة، وفق ما وثقه معدّ التحقيق عبر بيانات صندوق النقد الدولي.

وتكرر المصافي البيلاروسية 24 مليون طن من النفط سنوياً، وتُنتج 500 صنف من المنتجات الكيميائية والبتروكيماويات يتم تصديرها إلى 120 بلداً، كما تبلغ حصة القطاع 30% من إجمالي صناعات البلاد، وفق بيانات موقع “حقائق بيلاروسيا” التابع لوزارة الخارجية.

صراع مكتوم

على الرغم من استثمارات موسكو الهائلة في الاقتصاد البيلاروسي إلا أن روسيا لم تتمكّن من السيطرة الكاملة على حليفها، الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، وفق ما يوضحه نائب رئيس حركة “من أجل الحرية” ميخاليفيتش والذي خاض الانتخابات الرئاسية في عام 2010، قائلاً لـ “العربي الجديد”: “هناك مصافٍ متطورة في بيلاروسيا تتيح تكرير النفط الروسي وإعادة تصدير منتجاته بأسعار عالمية، ما دعم اقتصاد البلاد على المدى الطويل. ومع ذلك، تنتهج بيلاروسيا سياسة خارجية متعددة الأقطاب، ولها علاقات متطورة مع الصين، كما زار مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، جون بولتون، مينسك في أغسطس/ آب الماضي”.

وحول موقف موسكو من تحركات لوكاشينكو هذه وأساليب معاقبته، يضيف: “لا تعتبر روسيا تلك خطوات غير ودية فحسب، وإنما بمثابة خيانة، فتسعى لرفع أسعار النفط”، إذ تزامن فشل روسيا وبيلاروسيا في الاتفاق على أسعار النفط مع جولة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في الجمهوريات السوفييتية السابقة، مؤكداً خلال زيارته مينسك، على استعداد الولايات المتحدة لتوفير كامل احتياجات بيلاروسيا من الطاقة وبأسعار منافسة.

ولما كانت الاتفاقية الحكومية المبرمة بين البلدين تنصّ على توريد 24 مليون طن من النفط الروسي إلى بيلاروسيا سنوياً، هدد لوكاشينكو، في منتصف فبراير/ شباط الجاري، بوضع يده على النفط الروسي المورد عبر بيلاروسيا إلى أوروبا لتعويض الكميات الناقصة.

وبحسب تقديرات وزير المالية الروسي، أنطون سيلوانوف، فإن قيمة الدعم النفطي الذي تقدمه روسيا لبيلاروسيا يبلغ نحو ملياري دولار سنوياً، بينما يقدر لوكاشينكو خسائر بلاده المتوقعة جراء “المناورة الضريبية الروسية” بأكثر من 10 مليارات دولار خلال الفترة من عام 2019 وحتى عام 2024.


يقدر حجم الدعم الروسي للاقتصاد البيلاروسي بـ 106 مليارات دولار خلال الفترة من عام 2005 وحتى عام 2015
“ومنذ خريف عام 2018، تحوّلت قضية أسعار النفط إلى ملف شائك في العلاقات الروسية البيلاروسية على إثر إجراء موسكو “مناورة ضريبية” ستؤدي إلى الارتفاع التدريجي لأسعار النفط المورد إلى بيلاروسيا إلى ما يقارب الأسعار العالمية بحلول عام 2024، و”المناورة الضريبية” هي إجراء يلغي رسوم تصدير النفط الروسي البالغة حالياً 30% مقابل رفع ضريبة استخراج الموارد الطبيعية، ما يعني ارتفاعاً لأسعار النفط للمصافي في روسيا وبيلاروسيا على حد سواء، وفق ما يوضحه الشريك في شركة “روس إينرجي” للاستشارات، ميخائيل كروتيخين، قائلاً لـ”العربي الجديد”: “لا داعي لقلق كبير، لأن هذه ليست أسعاراً عالمية في الوقت الحالي، ولن تقترب منها إلا بحلول عام 2024، عن طريق الخفض التدريجي لرسوم التصدير واستبدالها بالضريبة الداخلية”.

ويشير إلى أنه “مع بدء قيادة بيلاروسيا بالتشديد على أنها دولة ذات سيادة وليست جزءاً من “العالم الروسي”، يتعين عليها شراء موارد الطاقة بأسعار عالمية”، وهو ما تؤيّده شركات النفط الروسية التي ترفض الاستمرار في تزويد بيلاروسيا بالنفط بأسعار “تفضيلية”، إذ قال وحيد أليكبيروف، رئيس أكبر شركة نفط خاصة روسية “لوك أويل”، في تصريحات صحافية في يناير/ كانون الثاني: “نعمل وفقاً لشروط تجارية. المناورة الضريبية ليست مبادرة شركات النفط الروسية، بل نحن ضحاياها مثل البيلاروس. لذلك، لا نعتزم تعويض الخسائر التي يتكبدها الجانب البيلاروسي”.

مناورة بين روسيا والغرب

يذكر الباحث غراشينكوف عدداً من المجالات الاقتصادية التي تعتمد بيلاروسيا فيها على روسيا بخلاف قطاع الطاقة، قائلاً لـ”العربي الجديد”: “القطاع المصرفي هو أحد الأشكال الرئيسية للدعم، إذ إن حصة الأصول المصرفية الروسية، مثل “بي بي إس” و”بيل فيب” وبيل غازبروم بنك” و”ألفا بنك بيلاروسيا”، في المنظومة المالية البيلاروسية، تتراوح بين 25% و30 %، كما أن حصة روسيا في الصادرات البيلاروسية، بما فيها المواد الغذائية مثل اللبن والجبن، تبلغ نحو 40 في المائة”.

وتتشارك روسيا وبيلاروسيا في عدة مشاريع تكامل اقتصادي مشتركة في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بالإضافة إلى “دولة الاتحاد” والتي لا ترقى إلى اندماج متكامل، ولكنها ترضي مينسك، كونها تحل المهام الرئيسية المتعلقة بالتعاون التجاري الاقتصادي، وفق ما يوضحه غراشينكوف، قائلاً: “أعتقد أن قضية التكامل بين روسيا وبيلاروسيا باتت على المحك اليوم. رغم أن الاقتصاد البيلاروسي يدعم نموذج الدولة الاجتماعية وهو ما قامت عليه شرعية النظام، إلا أنه ليس من مصلحة بيلاروسيا الخضوع للسيطرة الكاملة من قبل روسيا. من الواضح أن بيلاروسيا لا تريد الإقدام على التكامل الكامل، فتغازل موسكو دون نية حقيقية لتوحيد البلدين”.

ويخلص إلى أن موسكو لا تزال اليوم هي الشريك الأساسي لبيلاروسيا، ولكنه لم يعد لها احتكار في ظل مناورة مينسك بين كل من الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا.

وعلى مدى سنوات، ظل لوكاشينكو يخضع لعقوبات غربية بسبب قمع المعارضة، إلا أن الاتحاد الأوروبي توجه منذ عام 2015 نحو المصالحة معه وصولاً إلى رفع العقوبات المفروضة عليه وعلى بلاده، وهو ما يعلق عليه ميخاليفيتش، قائلاً: “يمكن القول إن هناك تعزيزاً للعلاقات مع الغرب مقابل الفتور مع موسكو، وذلك يبدو في فقدان لوكاشينكو لقب “الدكتاتور الأخير في أوروبا” لصالح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نظراً إلى ما ارتكبه هذا الأخير في شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس شرق أوكرانيا”.

البقاء على رأس السلطة

مع قرب انتهاء ولاية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرابعة والأخيرة بموجب الدستور في عام 2024، كشفت تسريبات متكررة عن عدة سيناريوهات محتملة لبقائه على رأس السلطة، بما فيها تأسيس دولة موحدة جديدة مع بيلاروسيا وبدء إحصاء الولايات الرئاسية من جديد، لكن لوكاشينكو نفسه صعّد من لهجته تجاه روسيا، زاعماً أن القيادة الروسية ألمحت له بإمكانية ضم بيلاروسيا مقابل أسعار موحدة لموارد الطاقة، معرباً عن ثقته بأن الشعبين البيلاروسي والروسي لن يريدا المضي على هذا الطريق.

ويشكك ميخاليفيتش هو الآخر في واقعية هذا السيناريو، قائلاً: “هذا أحد السيناريوهات التي تنظر فيها السلطة الروسية وبوتين لتصفير عدد الولايات الرئاسية، ولكنه ليس السيناريو الأساسي، وهو ما تؤكده التطورات الأخيرة في روسيا وإعلان بوتين عن تعديلات الدستور مؤخراً”.

وكان بوتين قد أعلن في رسالته السنوية إلى الجمعية الفدرالية الروسية في 15 يناير/ كانون الثاني الجاري عن حزمة من التعديلات الدستورية من شأنها تعزيز صلاحيات مجلس الدوما (النواب) ووضع الحد الأقصى للولايات الرئاسية، بينما تقدمت حكومة رئيس الوزراء، دميتري مدفيديف، باستقالتها. ومع ذلك، يتوقع ميخاليفيتش أن تواصل روسيا الضغط على بيلاروسيا في مسألة التكامل، ولكن نتائج مثل هذه الجهود لا تزال متواضعة، مضيفاً: “نشأ في بيلاروسيا جيل جديد لا يرى بديلاً عن الاستقلال، وحتى أنصار فكرة عودة الاتحاد السوفييتي يدركون أن روسيا اليوم لا تمت بصلة إلى الاشتراكية، بل هي بلد الرأسمالية الوحشية. علماً أنهم لم يشعروا بعد بنتائج ضربة رفع أسعار موارد الطاقة بعد”.

وبدوره، يشير غراشينكوف إلى أن “روسيا أرادت الاتفاق مع لوكاشينكو بشكل حازم مع انطلاق عملية انتقال السلطة، ولكنها لم تتمكن من ذلك، بل باتت مينسك تشعر بالفتور تجاه موسكو، وحتى لم تتمكن من الاتفاق معها بشأن ترانزيت النفط والغاز والتعريفات الجمركية”. ويخلص إلى أن “الحذر لوكاشينكو لن يقبل بتثبيت أي اتفاقات في مرحلة انتقال السلطة”، وهو ما يتفق معه كبير الباحثين في معهد بلدان رابطة الدول المستقلة في موسكو، يوري بارانتشيك، قائلاً لـ”العربي الجديد”: “منذ عام 1994، كانت بيلاروسيا تقدم نفسها على أنها بلد صديق وشقيق، فظلت روسيا تدعمها، ما أتاح تطوير قطاع المصافي البيلاروسي”، لكن ما يحدث حالياً يمكن وصفه بـ “النسخة الناعمة” من التجربة الأوكرانية في تدهور العلاقات مع روسيا.

رامي القليوبي

العربي الجديد